نبي جبران ورسائل يوسف الخال

ثقافة 2022/04/27
...

 طالب عبد العزيز 
 
إذا لم يكن يوسف الخال في كتابه الشعري (رسائل إلى دون كيشوت) قد وقع في شراك كتاب جبران خليل جبران الشعري (النبي) يوم ترجمه عام 1968 فقد ساورته الرغبة في صناعة كتاب مثله. قد لا تشي القراءة السريعة بذلك، لكنَّ المعاينة القريبة تمنحنا أكثر من وشيجة بين العملين، الملحميين المهمّين، في الفكرة وطريقة العرض والتتابع واختيار الأبطال ومن ثم الخلاصات، وإن افترقت هنا وهناك، إلا أنها التقت بشكل واضح في الحجم واختيار الصور أو التخطيطات الداخلية في أقل تقدير. 
أكثر من نصف قرن، تفصل بين الكتابين، فقد صدرت ترجمة الأب أنطونيوس بشير لكتاب (النبي) أول مرة في عام 1926 فيما صدرت طبعة كتاب الخال (رسائل إلى دون كيشوت) عام 1979. وهناك عشر سنوات فصلت بين ترجمة الخال لـ (النبي) وإصدار كتابه الاستثنائي (رسائل..) ولعلنا نذهب بالقول إنه وفي السنوات تلك احتفظ الخال بالخيط الخفي الذي أمده لكتابة كتابه ذاك، وأنه كان قد وقع بحبائل جبران الفلسفية والشعرية من حيث يعلم أو لا يعلم، وربما كان قد اشتغل فيه مستحضراً الثيمة الرئيس، التي انبنى عليها كتاب جبران (النبي).   تكتب ماري هاسكل، معشوقة جبران أنه في عام 1912 شرع جبران بكتابة السطر الأول أو الفكرة الأولى لإله الجزيرة، الذي سمّاه المصطفى، بطل ملحمته (النبي) ففي جزيرة نائية، هذا المنفى البروميثيوسي، أمضى الإله اثني عشر عاماً بانتظار سفينته التي كانت ستعود لتأخذه إلى الجزيرة التي ولد فيها. في الإقامة تلك يسرد جبران آراءه على لسان رجل حكيم يدعى المصطفى، يرحل بعيدًا عن موطنه، نحو مدينة من نسج الخيال، هي جزيرة «أورفاليس». ويزداد يأساً حين غلبته نوبة الحزن، وهو يهبط التلة. «ليس رداءً ما اطرحه عنّي، بل جلدا أسلخه بيديّ هاتين».  في (رسائل إلى دون كيشوت) نجد يوسف الخال يستخدم البطل الأسطوري جلجامش، متحدثاً بلسانه في رحلته إلى غابة الأرز، بلبنان، وهو إله أو نصف إله، بحسب الملحمة الرافدينية الشهيرة، وفي الرحلة هذه نجده متعذّباً، جراء فقدانه عشبة الخلود، وفي صراعه مع الموت بعد موت صديقه أنكيدو، وبذاك اليأس وبتلك الروح المهزومة يحاول الخال تبرير ما حدث ويحدث لبطله، فنجده يراكم من البطولة غير المتحققة أمام ما يحيق بها من الزوال والانهيار، لكنه وفي شبه استسلام صار يريد أن ينتهي الى النهاية التي آل اليها صاحبه: «أموت سعيدا لأنني عرفت الموت، عرفته في اللحظة الأخيرة، وفي اللحظة الأخيرة تألهت، فضمني إليك واغفر كبريائي». رسم جبران فكرة كتابه عند دخوله المدينة على شكل أسئلة تبدأ بها الكاهنة، المِطرة فتسأله عن الحب، مادة جبران في الكتاب، وتترادف أسئلة الآخرين عن الزواج والأطفال والعطاء والأكل والشرب والعمل والبيوت والثياب والجريمة والعقاب والقوانين والحرية والدين والموت، فتختلف إجاباته، كان يجيب عن الحب فيقول: «الحب، هو الذي لا يعطي سوى نفسه، ولا يأخذ سوى من نفسه، وحين يجيب عن الأسئلة الأخرى نراه يقول: «عليك أن تستريح في العقل وتتحرك في العاطفة». 
 كان نبي جبران فيلسوفاً، مطمئناً إلى الصيرورة الإنسانية فالحياة وكل ما يحيا، يُحبلُ به في الضباب وليس في البلّور.. ففي وداعه لأهل اورفاليس نجده يقول ما هي إلا وهلة ويجمع حنيني التراب والزبد من أجل جسد آخر، لكنَّ الخال لم يكن كذلك، هو في فلسفة كتابه يسكن قعر اليأس والتهكم، وعلى الرغم من فراره إلى الأسطورة، إلا أنه كان أرضياً، مستلّاً مادته من الوقائع المنظورة في لبنان آنذاك».. وأنَّ الله أيقن مع الزمن أنْ لا حياة لمن تنادي» وإذا كان إنسان جبران يبدأ بحبل في الضباب ثم ينتهي في التراب والزبد فإن الأمهات عند الخال يلدن لا لشيء إلّا لأنهن يلدن: «تحبلي بالريح يا أم اسماعيل» بعد أن استقيلت النملة، وقعدت في عرض الشارع حاجزاً، مهمته التفتيش عن العميان المبصرين.   وعلى خلاف ما اشتملت عليه الأسئلة الواقعية في (النبي) جاءت رسائل دون كيشوت الخال متقاطعة بشكل أو بآخر، فهي قائمة على أساس البحث والوهم والبطولة الزائفة، والحكمة الفارغة، والعدم، والقول، والخيبة عند الفارس بين غرناطة ولبنان، وفي سخرية من بطولة دونكيشوتية لا معنى لها: «كن لنا قائداً يوقف التنوين ويطرد الواو من عمرو». «فأنا مثلك إذا أعوزني القتال حاربت ظلي» وفي يأس وإحباط كبيرين يقول الخال: «إن قضيتَ نحبك عاجلاً لا آجلاً فلك الله». 
 معلومٌ أنَّ جبران كتب النبي باللغة الانجليزية في اميركا، وهو آخر كتبه، وأحبها اليه، حتى أنه جعله ولادته الاولى، ومعموديته الثانية، والفكرة الوحيدة التي «تجعلني حراً بالوقوف أمام الشمس» بينما كان كتاب الخال عمله قبل الأخير، وهو الأهم قطعاً في تجربته الشعرية بلبنان، وسط أزماتها المعروفة آنذاك، والعملان ملحميان بحق، فضلاً عن كونهما عملين رائدين في كتابة قصيدة النثر العربية، وإن بعُد الأولُ عن الثاني بنصف قرن.