أيام الجنون والعسل

ثقافة 2022/04/27
...

 وارد بدر السالم
لفت الراحل خضير ميري الانتباه النقدي لكتابه (أيام الجنون والعسل) بوصفه شهادة ووثيقة عالمية ضد الولايات المتحدة الأميركية التي تسببت بمقتل عدد كبير من نزلاء مستشفى الرشاد للأمراض النفسية والعقلية. عندما أطلقت صاروخاً عشوائياً في الحرب ضد العراق، فأصاب هذا المكان وقتل من قتل فيه. في ليلة 9 شباط 1991.
 
 
هذه الحادثة المروّعة التي أقصتها الحرب من الذاكرة الجمعية، أودعتها في ذاكرة “نزيل عقلي” كُتب له أن يشهد هذا الموت الجماعي ويعيش تفصيلاته المريرة. بالرغم من أن هذا النزيل (يشمئز من عودة الذاكرة إلى رماد الجنون) إلا أنه تمكن من أن يرصد الحالة الكارثية ويكتب عن أيام الجنون والعسل بطريقته الأدبية. ألا وهو الكاتب الراحل خضير ميري الذي عاش تلك الواقعة، بوصفه نزيلاً في المصحة العقلية لوقت غير قصير، فامتلك الجرأة الكافية في جرأة الطرح، ليقدّم شهادة صادمة عن الحرب بوصفها ممثلة للجنون الأسود. ولم تكن شهادة سياسية أو صحفية حسب. انما هي نص سردي قائم بجمالياته الفنية، مع أن ميري يقر (إن قتل حزمة من المجانين لا يحتاج إلى رأي أدبي) لأنه تعامل مع الواقعة لا على أساس الوثائق والإحصاءات والشهادات، فمقتل عدد كبير من نزلاء هذه المصحة العقلية لا يحتاج إلى تبرير إحصائي، فالتقرير الإجمالي المحفوظ في أرشيف المستشفى يؤكد على أن (400 مريض عقلي ماتوا خلال العدوان العسكري الأميركي) وأن منظمة الصحة العالمية زارت المستشفى وسجلت هذه الحادثة لكنها لم تفعل شيئاً.
دار نشر سطور العراقية أعادت نشر هذا الكتاب بطبعة جديدة، نظراً لتوثيقه حادثة تكاد تُنسى في زحمة فقرات الحرب، فميري وكتابه “أيام الجنون والعسل” وجهان لحالة واحدة، ويشكلان ثنائية في العقل والجنون. بل هما يتطابقان بين غلافين سميكين، أحدهما يمثل الجنون والآخر يمثل العقل. ومن ثم لا ينفصل هذا النص عن صاحبه. حينما أراد ميري استذكار الواقعة وتسجيل مأساتها في ذاكرة المكان الشخصي في استحضار لحظة “فاعلية الحضارة الأميركية” التي امتدت الى أربعين يوماً، وبقيت تقتل في اليوم الواحد عشرة “مجانين” في لحظات الجنون الأسود المتمثلة بسقوط صاروخ قاتل على المكان. يقابلها الجنون الأبيض وهو رمز المرضى الذين سقطوا صرعى، لفقدانهم شروط البقاء في الحياة. وعلى هذا الأساس فإن الكاتب تعامل مع هذه الثنائيات لوصف التناقض في وصف الواقعة. فهناك الحياة والموت كثنائية أزلية. وهناك العقل والجنون التي تتقبل الجدل والتوصيف.
الموت الجماعي لبشر عزّل هو موت (نادر) في النصوص الأدبية. لكنه تحول بين أصابع ميري الى سرد أدبي عن موت منسي. أقصته الذاكرة الجمعية؛ مثلما أقصت “حياة” هؤلاء المرضى العقليين. فالإقصاء هنا مقصود اجتماعياً، لكن الإقصاء الآخر لم يعد مبرراً وإن تعمدته ذاكرة الجماعة. والموت هنا سياسي جداً أكثر منه قدرياً. لأنه كان (يحدث) بوجهات نظر مختلفة ومتقاطعة. بل أظن أن الموت هنا كان يجري من دون علم منّا. كاستغفال لذاكرة مجتمع انصهر في فرن الحرب. والاستغفال هنا أيضاً يمكن عدّه سياسياً؛ وإلا كيف اهتدى الصاروخ الأميركي (الذكي) ليدك مكاناً قصياً في العاصمة وهو بلا فاعلية سياسية وعسكرية. بل ربما (يهدد) الكيان العاقل خلف أسوار المكان ويهدد الحياة الحرة خارجه.
ولد هذا الكتاب من تقنية غير معقدة. مخادعة بنسبة كبيرة. فخرج من التسميات النقدية واستقلّ بذاته من دون توصيف روائي أو شهادة أو يوميات. معبراً عن رؤيا واضحة لحدث الحرب. لذلك فإنه خضع لبنيته الداخلية وموجّهاته الشخصية القائمة على ما يشبه السيرة الذاتية للمكان (المستشفى) من دون أن يمتثل لها. فالمكان (يسهم في خلق المعنى) وحينما ذكرت بأن المؤلف والمكان يتطابقان بين دفتي غلاف سميك، أحدهما يمثل العقل والآخر يمثل الجنون؛ فإن ذينك الغلافين ينطبقان على المكان ذاته - المستشفى الذي يظل بالرغم من سوداويته وانغلاقه الشخصي هو المهيمن على واقع النص وواقعيته. لذلك لم يشر المؤلف الى وجوده المادي إلا بإشارة عابرة في مقدمة النص، ككيان خاضع لهيمنة المكان وشروطه ومن ثم هيمنة الواقع/ الواقعة الصاروخية - مسرح الجريمة، بمعنى أن وجوده الواقعي لم يكن بديلاً عن وجوده الرمزي. وان وجوده الرمزي لا ينفي وجوده الواقعي كشاهدٍ وراوٍ ومؤلف وموثق (أدبي) لهذه الكارثة المنسية في سجلات الحرب، ومن هنا فإن سيرة المكان هي الطاغية، وأن الشخصيات القليلة التي اعتمدها ميري هي من مكملات المكان وضروراته الفنية والواقعية أيضاً. وهي من مستلزمات سيرة المكان الذي ظل يتنامى وتنكشف صورته القاتمة عبر الفصول القصيرة المتلاحقة، السريعة، المتتابعة. كأنّها مونتاج سينمائي أحكم ميري على الواقعة وأنتجها ليشكل نصا له ديمومة البقاء والثبات وقوة الملاحظة وجرأة الطرح ووعي الحدث.
قام النص في معماره الفني على المكان، لا بوصفه مسرحاً للحدث ـ إنما كمرجعية زمانية يراد تدوينه ثانية بالاستناد إلى الواقعة الصاروخية- السياسية التي فجّرته، فتحوّل من مكان مقصي عن البنية الاجتماعية وذاتها الرافضة له، الى زمن متراكم في الوعي الجمعي الرافض، لتنكشف (جمالياته) المتواترة التي مثّلتها أربع شخصيات قادت النص إلى مسوّغاته الفنية والأدبية. فيما توارت شخصية خامسة خلف تلك الشخصيات وخلف ظلال النص؛ لتكون مرجعية دالّة لحركة الزمن والمكان والشخصيات؛ ومرجعية ذاتية لمقومات السرد. وهي شخصية المؤلف ذاته. كونه مركزاً ضمنياً لبؤرة النص. ترتسم من خلاله شكل الواقعة بمستوياتها الرمزية والدلالية. فتظهر أو تتوارى شخصيات النص بحسب ترتيب الفصول القصيرة التي اجتذبت السرد والمكان والزمن، مع الشخصيات على قلة أدوارها الفاعلة:
• الدكتور باهر سامي بطي شخصية حقيقية. كان اثناء القصف الصاروخي مديراً لمستشفى الرشاد للأمراض العقلية. ويصفه المؤلف بأن له (مشية محارب) وهو (منهمك جدا.. بنملة حائرة أو مريض يحتضر ولا يفسّر شيئاً خارج أنف عيادته المتنقلة) ولا تحتاج هذه الشخصية الى تفسير ثانوي إذ ظلت في واقع النص محكومة بالتوصيف أعلاه. تظهر وتختفي بالتعاقب لتعلن نظرية التناغم البديهي بين (الجوع) و (الجنون) أو ترصد ارهاصات المرضى وتحرر موتهم التالي لإكسابه (شرعية) الحدوث في أقل تقدير.
• هيفاء. السكرتيرة الأولى في المستشفى تبدو (كنحلة بيضاء عسلية، أخذت مساحة كبيرة من نصف ذاكرة نزلاء هذا المكان) ومركزية هذه الشخصية هي في علاقاتها الأمومية بالنزلاء واستيعابها لواقع الجنون، ومن ثم واقع الحرب الذي داهم المكان وحوله الى علبة محكمة الشد. لذلك وبدافع التجربة والغريزة فإن هذه السكرتيرة اللامعة أخذت تبحث عن منفذ للانعتاق، والخروج من الموت الى الحياة؛ الى الحرية على وجه الدقة. بعد حصار القصف وانعدام الشروط الإنسانية في المكان. لذا فإن تحولاتها النفسية أخذت تظهر في نبذ المكان وكرهه والاحتجاج عليه. 
• تكاد تكون شخصية حسيب؛ وهو أقدم مجنون في المكان؛ طاغية في تضاعيف النص؛ إذ يتكرر بين الفصول كعلامة بارزة يؤدي دوره بمنطق عالي المستوى! وأعتقد أن شخصية المؤلف تحضر في ثنايا هذه الشخصية المتكاملة وعياً وجنوناً في الوقت ذاته، في لعبة تبادل الأدوار بينه وبين شخصية المؤلف الواقعية. وقد يفسر البعض بأنها لعبة لاشعورية، لكنني أرى بأن هذا الالتصاق بشخصية حسيب، هو إحالة مقصودة تقف على قدر كبير من الوعي المستعاد، وقد أقصاها ميري من سلطة الجنون وأحالها الى سلطة الوعي. وأخرجها من غيبوبة الجنون وألبسها ثوب العقل والحكمة الساخرة (وهنا أبصرت حسيب وهو يحمل زوجين من الأحذية المطاطية وهو يرسم علامة النصر باتجاهي) على أساس أن اللامنطق هو الذي يتحكم بمصائر الآخرين ويقود البشرية الى الحروب والكوارث. وبتبرير أدقّ أنَّ فعل اللامنطق هو الذي جعل حسيب يتفوّه مثل الحكماء.
(سؤال من أنا ؟ لا معنى له إذا كان الجميع يسأل بعضهم من أنا؟)
المنزل هو (باب يكون لك حق السؤال وراءه: من الطارق؟)
(الوطن هو أن تكون لك أم واحدة لملايين الأبناء)
إنَّ اختفاء المؤلف لم يدفع الشخصيات القليلة المعتمدة لتأخذ مساحتها من واقع النص، فقد ظلت مكتفية بحضورها البرقي، وهي سمة النص وجزء من اقتصاده في توصيف الواقعة عبر شخصية المكان. وهو مكان مغلق، سلبي، مسرحي، يكتنفه الغموض وتفترعه الرهبة. لذلك ظلت الشخصيات محكومة بين جدران النص قبل أن تكون أصلاً محاصرة بين جدران المكان.