عندما يتحول الواقع إلى سخرية

ثقافة 2022/04/27
...

 هدية حسين
 
عزيز نيسين (1915 - 1995) كاتب تركي قضى العديد من سنوات عمره في السجن بسبب كتاباته التي تعرِّي الواقع السياسي والاجتماعي في بلده، إذ يُعدّ من أفضل كتّاب الكوميديا السوداء، كتب أكثر من مئة كتاب في شتى صنوف الأدب في القصة والرواية والمسرحية.. سنتناول ثلاث قصص من مجموعته (لا تنزعج) التي ترجمها فيصل نور.
يلتقط نيسين شخصياته وأفعالها من الواقع الاجتماعي المرتبك ويكشف لنا دواخلها وتعقيداتها النفسية وتناقضاتها وتعاملها اليومي مع الحياة، بأسلوب أقرب الى الحكي اليومي، ويضعنا في قلب الكوميديا السوداء فلا تدري هل تضحك على الواقع أم تبكي عليه، كما ينتقد النظام السياسي بشكل مباشر في أغلب الأحيان، وغير مباشر أحياناً لكنه مفهوم ومشخّص.
في قصة (ملكة الجمال) يقف طابور من النساء والرجال لمشاهدة صور لملكة جمال تركيا، يتدافعون ويتراشقون بالكلمات من أجل أن يصلوا إلى المكان الذي يستطيعون من خلاله إلقاء نظرة على (ملكتهم) وما إن يصل أحدهم حتى يتبرّم ويعترض على اختيار هذه الشابة، ويستمر التدافع والصراخ من أجل الوصول لرؤية ملكة الجمال، لكن الكل بعد رؤية الصور يُجمع على أنها لا تمتلك من الجمال ما يؤهلها لهذا اللقب، كل يدلي بدلوه، يقول أحدهم لو وقفت في الشارع لدقائق ستمر أمامك مئة فتاة أجمل منها، ويتقاسم البقية عيوبها، من الشعر الى الأنف الى الفم والجسم بشكل عام، لم تبق صفة مذمومة إلا وألصقوها بها، والخوف كل الخوف لو اختيرت هذه الفتاة لمسابقة عالمية، عندها ستصبح القضية قضية بلد، لا يمكن السكوت على هذا العار، سيصبحون أضحوكة أمام العالم، لذلك فالبلد والمواطن خط
أحمر.
بعد أيام يقف الطابور نفسه بازدحام أشد، فالفتاة قد اختيرت فعلاً في مسابقة جمال الكون، وهنا يركز عزيز نيسين على النفاق الاجتماعي والتلون بالمواقف، سيتغير الجمهور من قادح الى مادح، يقسم أحدهم أنه لم ير أجمل منها في حياته، وآخر يقول لقد خلقها الله وكسر القالب، لقد بيّضت وجوهنا، ويستمر المدح وتصبح ملكة الجمال قضية قومية يجب دعمها.
وفي قصة (لا تنزعج) التي أخذت المجموعة منها العنوان، اختار لنا عزيز شخصية كثيراً ما نصادفها في الحياة، فهي موجودة في كل زمان ومكان، شخصية رجل يدعى حكمت، مهذب بطريقة زائدة عن الحد تصل الى درجة الإزعاج في تواضعها وتهذيبها، يرتبط بعلاقة صداقة مع (الراوي) الذي يأخذ زمام الحكي عن صديقه حكمت الذي يستخدم معه كلمات مفخمة على الرغم من صداقتهما منذ خمسة عشر عاماً، فهو لا يبدأ الكلام معه إلا بعبارات مثل، سيادتكم، وحضرتكم، وشخصكم الكريم، بل يستخدم هذه العبارات حتى مع الإسكافي، جعلت تلك العبارات الناس يظنون بأنه يسخر منهم، ويحكي لنا الراوي بأنه ذات يوم دخل بيت حكمت، فراح الأخير يرحب به بطريقة أزعجته جداً، كلما جلس في مكان قال له حكمت: هل أنتم مرتاحون؟ هل ثمة إزعاج؟ ويروح يغلق النوافذ خشية تسرّب الهواء الى الصديق، ثم يأتي بالوسائد ويكرر: هل هذا الوضع جيد؟ أظنكم غير مرتاحين، وتكرر الأمر حول مائدة الطعام، يغير الكرسي الذي يجلس عليه الصديق ليضمن له جلسة أفضل كما يعتقد و... لماذا لا تأكلون من السلطة، هل ملحها قليل؟ أنتم لا تأكلون جيداً، كرامة لله كلوا، تذوقوا البيتزا، كلوا يا سيدي، ولم تنفع كل الإجابات لكي يطمئن حكمت الى أن الصديق كان مرتاحاً فيبلغ به الأمر الى أن يزوره في اليوم التالي ليسأله فيما إذا كان مرتاحاً أم لا، وعلى الرغم من أن صديقه أقسم على أنه كان مرتاحاً إلا أن حكمت أصر بأنه لم يوفر له أسباب الراحة كما يجب مما جعل الصديق يصرخ بوجهه حتى حضر الجيران لصراخه لتنتهي تلك
الصداقة.
إنَّه كالزئبق، هكذا يصف نيسين بطله في قصة سبع افتتاحيات في اليوم، وهو وصف دقيق لرجل سياسة كل ما عليه أن يفتتح المشاريع ويلقي كلمة وقت الافتتاح، وكثيرة هي المشاريع التي عليه أن يفتتحها يومياً، ولكل مقام مقال كما يقال، يبدأ عمله في التاسعة صباحاً ولا ينتهي إلا في ساعات آخر النهار، ويمكن أن نضيف الى وصفه بالزئبق بأنه يبدل جلده مثل الأفاعي، فبعد أن ودع وفداً محلياً في بداية عمله اليومي فقد استعد لاستقبال وفد تجاري أجنبي وقال كلاماً منمَّقاً عن أهمية التاريخ المشترك بين البلدين، وأهمية الاتفاق على صفقة المواد
الضرورية.
وكان في الوقت نفسه يفكّر في الكلمة التي سيقولها في افتتاح معمل الفطر، وعندما تمَّ له ذلك صفق له الجمهور تصفيقاً حاداً، وذهب عقله الى الكلمة التي سيلقيها في افتتاح أحد الشوارع، وعندما ذهب الى هناك كان الجمهور بانتظاره، وفعل مثلما فعل في افتتاحياته السابقة، وعليه أن يعود الى مكتبه ليستقبل مدير النشر الذي يعمل في الأمم المتحدة، فكان طيلة المسافة يفكر بما سيتحدث به الى مدير النشر، وفي كل افتتاحية كانت الـ (ديمقراطية)
حاضرة.
 لكنه بسبب كثرة الافتتاحيات والجهد المبذول كان الأمر يلتبس عليه فيخطئ، ولولا معاونه الذي ينبهه من حين لآخر ويصحّح له لأصبح فضيحة أمام الجمهور، ففي افتتاح الشارع ظنَّ أنَّه ما يزال في افتتاح معمل الفطر فجاء ذكر الفطر على لسانه، وقد كثرت الأخطاء فانزعج وكان لا بدَّ أن يلقي بالاتهامات على الإدارة السابقة في إهمالها شؤون المواطنين، وحتى عند استقباله وفد الأمم المتحدة كان يفكّر بافتتاح معمل ماكينات الحلاقة فالتبس عليه الأمر وصار يقول كلمات تتعلق بالماكنات وهو يبتسم أمام عدسات المصورين ويقول الخطابات الرنانة المرتبكة والملتبسة، وعند عودته الى البيت في ساعة متأخرة من الليل لم يستطع النوم.. إنه يفكر بما سيقوله في الغد، لقد حولته الجهة السياسية التي يعمل تحت مظلتها الى ببغاء يردد ما تريده تلك الجهة على حساب إنسانيته.