الحركة سيدة المشهد

ثقافة 2022/04/28
...

ستار كاووش

تميزت المدرسة المستقبليَّة في الفنِّ عن كلِّ المدارس والاتجاهات الأخرى كونها تعتمد اعتماداً كلياً على الحركة، لدرجة تشعر أنَّ الكثير من أعمال المستقبليين، كأنها جزء من شريط سينمائي، أو مقطع صغير من مشهد متحرك. 
هكذا بنى المستقبليون طريقتهم في إنجاز أعمالهم الفنية على الحركة والانتقال من حالة إلى أخرى باستخدام أدواتهم التشكيلية لا غير. 
والمستقبلية ظاهرة إيطالية بامتياز، بدأت على يد الكاتب الإيطالي فيليبو مارينيتي، الذي كان أول من نادى بالمستقبلية من خلال البيان الذي نشره في جريدة الفيغارو سنة 1909، ومنه تلقفَ الرسامون هذه الأفكار ومضوا بها إلى الأمام. 
مع ذلك كان هناك تأثير كبير من التكعيبية في الرسامين المستقبليين، إذ بدت المستقبلية كأنها قد خرجت من معطف التكعيبية التي نرى ظلالها التي بدت واضحة على أعمالهم، من خلال تكويناتهم وبناء لوحاتهم والخطوط الحادة عادة والتقاطعات والحركة. 
مع ظهور بيان المستقبلية، مضى رسامون مثل بالا وسيفيريني وبوتشيوني ومارينيتي في محاولة تغيير المشهد التشكيلي العالمي برمته، وكان تأثيرهم كبيراً وملهماً، رغم انفراط هذه الحركة بعد مرور خمس سنوات من تأسيسها، بسبب عوامل عدة أهمها نشوب الحرب العالمية الثانية التي قُتِلَ فيها رسام المجموعة البارز بوتشيوني. 
لوحتنا اليوم للفنان جياكومو بالا (1871 - 1958) الذي يُعَدُّ من أهم الرسامين المستقبليين وأكثرهم جاذبية، وقد تأثر بالكرونوفوتوغراف (وهي تقنية تصوير حركات متتابعة للحيوانات أو الناس بصور متسلسلة، وكان الغرض الأساسي منها علمياً وليس لعرضها كصور متحركة، وظهرت منتصف القرن التاسع عشر، أي قبل ظهور التصوير السينمائي). 
هذه اللوحة عنوانها (كلب مع سلسلة) وتبدو فيها الحركة واضحة، حيث نرى تأرجح السلسلة ولمعانها وحركة أرجل الكلب واهتزاز ذيله، بشكل هلامي يشعرنا بديناميكية ونبض الأشكال الحية وحركتها. 
وبجانب الكلب تظهر المرأة بملابسها الداكنة وهي تحرك قدميها إلى الأمام والخلف وتمنح اللوحة حيوية وجاذبية. 
ننتبه هنا إلى حركة الفرشاة وهي تدفع الأشكال إلى الأمام من خلال التلاعب بالدرجات اللونية والنغمات المتفاوتة لِلَّونين البني والرمادي، كذلك من خلال تقنية التنقيط التي منحت اللوحة نوعاً من الدفق والمرونة. 
اللوحة تخفق بالحياة، ولسنا بحاجة لرؤية وجه السيدة وقوامها، فالحركة هنا هي سيدة المشهد، والاندفاع للأمام هو ما أراد أن يقوله الرسام في هذه اللوحة التي لا تمل العين من مشاهدتها. 
يختلف بالا عن كل رسامي المستقبلية، ففي حين اهتمَّ باقي الرسامين بالحركات العنيفة والآلات والخطوط الحادة والأشكال القوية، انغمس بالا برسم لوحات تحمل نعومة الضوء وانسيابية الحركة ودفق المشاعر، أعمال حتى لو بدت غير مألوفة، لكنها تحمل مسحة من الذكاء، تُطرب العين وتسحب البصر إلى الأمام. 
نرى في هذه اللوحة كيف أمسكَ الفنان بمشهد بسيط وعابر نراه كل يوم، ليمنحه هذا الجمال الممزوج بنوع من الدعابة. 
إنها حقاً واحدة من أكثر لوحات المستقبليين أناقة وترفاً وجاذبية. 
عُرضت هذه اللوحة لأول مرة في صالون الخريف بمدينة برلين التابع لغاليري دير شتورم (العاصفة) سنة 1913، وتنقلت بين العديد من مقتنيي الأعمال الفنية، لتصل إلى مكانها الحالي في متحف البرايت نوكس في بوفالو، نيويورك.