التجربة وثقافة الطباعة

ثقافة 2022/04/29
...

 مهند الخيكاني
 
 لو أراد الكاتب وعلى وجه الخصوص الشاعر، طباعة كل ما يكتب فلن يكفيه 40 إصداراً، خاصة ممن يكتب بشكل دؤوب ويومي، فمن المستحيل أن تكون هذه الكثرة المستفيضة كلها نوعية ومختلفة، إذ إننا بحكم قربنا ومتابعتنا ندرك أن هناك نصوصاً توائم، لنص يعود للشاعر نفسه، لا بأس إذا كانت نسبة الاختلاف أعلى من نسبة التشابه، لكن العكس غير جيد بالمرة. مثلاً تمر عليك مجموعة شعرية، كل نصوصها متشابهة، لكنها تحمل عنوانات مختلفة فقط، أو تقرأ نصاً معينا فتجد بعد ذلك النص أربعة إلى خمسة وربما أكثر من النصوص امتداداً لنص واحد. وهناك نوع من الشعراء الذي يكتبون بطريقة واحدة طوال حياته، ومن ايجابيات هذه الطريقة أنها تبرز أسلوبه أو ما يعرف بالمتداول بـ (بصمة الشاعر)، ومن سلبياتها أنها تصبح متوقعة وسهلة الحفظ بالتكرار، فلا تجد ما يدهشك في البناء أو في الصياغة ولا حتى في طرح أفكار ذات دماء جديدة على الأقل.  
هذا النوع من الشعراء في الوقت الذي يظن أنه يزداد ثباتاً مع الوقت، هو في الحقيقة يتداعى، وعندما تقرأ له عدة نصوص كأنّما قرأت له كتاباً، وإذا قرأت له كتاباً فكأنما قرأت تجربته بالكامل، والتي يمكن أن تتجاوز ثلاثة مطبوعات شعريَّة. وهي حالة مرضية ومفاجئة، خاصة إذا علمنا أن أصحابها من المدركين العارفين. 
أما بالنسبة للتجربة أو قولنا عن أحدهم تجربة، فهو ليس بالكثرة، بل بتعدد وتنوع الجودة، بمعنى أننا مع كل مطبوع نلمس شيئًا من الاختلاف عن سابقه، ولا يجب أن يكون مختلفًا حد القطيعة كي لا يفقد الشاعر أسلوبه الشعري الذي يميزه، لكنها شرط وضرورة ليقال تجربة حسب ما أظن، وحين نقرأ هذا النوع من التجارب، نلحظ التنوع في الكتاب الواحد، والذي يليه، وهو ليس مستحيلاً، إذا كان الشاعر قد استغنى عن الكثير في سبيل القليل الذي يستحق الطباعة وينمّي التجربة ويدفعها نحو الأمام. 
التجربة مركبةٌ لها عجلات، ووقود هذه المركبة هو التنوع في الأفكار والتحديث في البناء بشكل جزئي، عدا ذلك بمقدورك طباعة مئة مطبوع، ولن يشعرنا ذلك كقرّاء سوى بشعور واحد أننا قرأنا كتاباً واحداً أو كتابين على الأكثر!. 
نحن نفتقر إلى ثقافة الطباعة، واختيار الوقت المناسب بغض النظر عن العامل المادي الذي يصبح عائقاً في أغلب الأحيان، نفتقر إلى لحظة الفرز الماثلة بين مجموعة نصوص وأخرى..  وعلى ذلك أرى بأن كثرة المطبوعات، هي في الحقيقة إهدار للأموال والأوراق لا أكثر، ورقم للتباهي يطرز الـ cv بكلمات فخورة. 
واقع الأمس وواقع اليوم أثبتا لنا كقراء، تجارب رسّخت نفسها من خلال مجموعة نصوص، أو مجموعة شعرية واحدة، حملت في مضمونها ما ذُكر. وها هي إلى اليوم تسير بثبات واحد عبر الأجيال من دون تلكؤ، معلنةً أن الشعر نافذٌ ونفّاث أمام متغيرات العصر الشاسعة، وعلى الرغم من اختلاف اللغة المتداولة، فإنها تحافظ على رصيد جيد من المقبولية.
يقودنا هذا الحديث أيضاً إلى استسهال عملية النشر، وعدم خضوع المنجز إلى فحص دقيق يتم من خلاله قبول أو رفض ذلك العمل، ويحدث ذلك بسبب ميول أغلب الدور إلى الربح المادي مهما بلغ العمل من الركاكة. فعلى ما يبدو نحن بحاجة إلى تعريف مفهوم المنجز والعمل الجيد قدر الاستطاعة، كي يبتعد المبتدئ والخبير عن إغراء الأرقام المتوالية في طباعة الكتب. 
هذه الرؤية لا تهاجم إطلاقاً أصحاب المنجزات الراسخة والمدروسة الممتدة على مدار عقود من الجهد والمثابرة في شتى تصانيف الإبداع، فليست كل كثرة هي كثرة سيئة، ما دامت تتكئ على جهد وافر من التفحص والرصانة مدفوعة بإغراء فضلا عن عالم الكتابة، والطريق إليها هي طريق تتطلب من القارئ أن يمشي إليها من دون اكتراث بالمسافة وعدد الأنفاس المتلاشية إثر ذلك الفعل الجمالي الذي يزيد "سعة الأرض". 
الواقع القرائي الممتد من التراث إلى وقتنا الحالي، أضاء لنا نماذج إبداعية استطاعت التميز من خلال "قصيدة واحد"، أو منجز كتابي واحد أو اثنين، استطاع الفنان من خلالهما، أن يرسّخ اسمه وتجربته. ومنهم من قضى نصف قرن من الكتابة كي ينجز ستة أو سبعة كتب لا غير. بمعنى أن الندرة بإمكانها اختصار سمات التجربة في التنوع والتعدد والتجديد عبر منجز مكثف، تحفظ لصاحبها مكانته عبر الأجيال.