الأنسنة في المسرح

ثقافة 2022/05/07
...

 د. بشار عليوي
 
مرةً أُخرى "يورطنا" المخرج والباحث المسرحي ثائر هادي جبارة، عُنوةً وبكُلِ مقبولية ومحبة منا، بُغية الإبحار معهُ داخل عوالمهِ المسرحية المُتعددة وفقاً لتمظهراتها الإخراجية تارةً والتمثيلية تارةً والبحثية تارةً أُخرى، عبرَ حيازتهِ لعُدة معرفية خصبة عمدتها أعوامه التي قضاها في هذهِ العوالم التي لا يُريدُ لها أن تنتهي حتى بعد انقضاء "صائفة" مهمتهِ التربوية الرسمية بثلاث عقود ونيف ليبدأ بعدها "ارتباعهُ" الربيعي كتأكيد على أن إقبال "جبارة" على سبر أغوار مُختلف صنوف المعرفة المسرحية لا يبدو أنهُ سينتهي في الأجل المنظور كما عوَّدنا هوَ في الآني والآتي.
هُنا يأتي مُنجزهِ البحثي والنقدي الجديد الموسوم (الأنسنة في المسرح وبحوث أخرى) ليضعنا من جديد إزاء تساؤلاتنا ذاتَ المُنحى الانطولوجي الذي سبقَ لنا أن طرحناها..
• هل يُشكل المُخرج المسرحي البابلي "ثائر هادي جبارة" ظاهرة مسرحية وحده، مُخرجاً وكاتباً وباحثاً؟ 
• وهل يُمكن لنا كمُتلقين على الأقل تتبع تحولاتهِ الإخراجية مع باقة العروض المسرحية التي قدمها؟
نعم "جبارة" يحمل كُلّ مقومات الظاهرة المسرحية وحدهِ، وهي ميزة يكاد ينفرد بها من دون غيره من المُخرجين المسرحيين البابليين، فهوَ قدم عديد الأساليب الإخراجية التي تجسّدت بسلسلة العُروض المسرحيَّة التي وجدت ضالتها في القصيدة والمونودراما ومسرح الشارع وعروض المجاميع المسرحية والمسرحية الشعرية فضلاً عن كتابتهِ لنصوص عروضهِ المسرحية وقيامهِ بعملية كولاج لعدة نصوص في عرض مسرحي واحد، لقد جَرب "جبارة" عدة أساليب إخراجية ضمن ارتكازهِ المُعلن على مجموعة المضامين الفكرية التي بثها من خلال عروضهِ المسرحية، فثمة تحولات واضحة في اشتغالاتهِ لناحية التجريب أكثر على ماهية النص وتفجير طاقتهِ البصرية والاعتماد أكثر على حضور الصورة داخل منظومة العرض ونجد هذهِ التمثلات واضحة في عروضهِ المُتعددة (منورين) و(مرويات النهر الحزين) و (أغنية الهَم والهم) و(أخاديد).. وغيرها من العروض التي شكلت ظاهرة "ثائر هادي جبارة" المسرحية بجميع مُقوماتها وأنساق تَشَكُلِها.
لقد عَضَدّ "جبارة" جهوده المسرحية أيضاً، بسبر أغوار البحث المسرحي العلمي وفقاً لمنهجية بحثية رصينة تشي بذات إنسانية حاملة للهَمِّ المعرفي والإنساني تعي تماماً أهمية تعضيد المُمارسة المسرحية، بالتنظير والكتابة البحثية التي من شأنها إعلاء شأن صاحبها وجعله في مصاف المسرحيين من طينة الكِبار ذوي المُعطى الإنتاجي المسرحي المُتعدد والمُتحول على الصُعد كافة، لذا حرص "جبارة" على ولوج عالم البحث المسرحي والدرس النقدي، مُتأبطاً مُنجزهُ الفني الثَرّ بالتحايث مع ما يُقدمهُ من نتاجات مسرحية متوالية، فكانت التجربة الفريدة المُتمثلة بإقامة المؤتمرات العلمية التي كانَ يُنظمها قسم النشاط المدرسي والرياضي في المديرية العامة 
للتربية في بابل سنوياً، مجالاً خصباً لـ "جبارة" لإعادة اكتشاف ذاتهِ الانسانية ولكن هذهِ المرة عبرَ بوابة البحث العلمي في مجال الفنون المسرحية وآدابها، فقدمَ عديد البحوث العلمية التي خرجت جميعها من رحم تجربتهِ الاخراجية الثرية، وكأنهُ يُعضد هذهِ التجربة بتبديات البحث العلمي الذي كانَ أحد فُرسانه، وأزعم أني كُنتُ محظوظاً حينما كنتُ أُجالسهُ كعادتنا لتنفتح حواراته المعرفية حولَ مشاريعهِ الحالية والمُستقبلية ومنها دراساته التي كانَ يُنجزها ومنها هذهِ النتاجات البحثية التي تضمنتها دَفتا هذا الكتاب الذي بين أيدينا عبرَ فصولهِ الثلاثة الذي يقع في 262 صفحة من الحجم المتوسط والصادر مؤخراً عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل.
حملَ الفصل الأول عنوان (الأنسنة في نصوص مسرح الصغار والكِبار) وهوَ دراسة علمية قيّمة تتناول ماهية الأنسنة في المسرح عموماً وفي مسرح الطفل خصوصاً وهي من الدراسات الرائدة في المسرح العراقي والتي أنجزها "ثائر هادي جبارة" منذُ سنوات خَلّتْ وتكمن أهميتها بوصفها تُسلط الضوء على أسباب أنسنة الأشياء الحيوانية والنباتية والجمادية وإضفاء الصفات الإنسانية عليها.
وتعنون الفصل الثاني من الكتاب بـ (أبعاد الشخصية الشريرة في نصوص المسرح) وهُنا يستكشف "جبارة"  أبعاد الشخصية الشريرة في نصوص المسرح المدرسي عبر نُخبة من النصوص المسرحية التي كُتبتْ خصيصاً لهذا المُعطى، في حين خُصص الفصل الثالث لدراسة (توظيف الرموز التراثية في المسرح) وهي سياحة بحثية في ثنايا التراث رموزهِ التي توظف داخل بُنية المُمارسة المسرحية تأليفاً وإخراجاً.
أزعم أن متن هذا الكتاب، بمثابة "مانيفستو" يؤكد أهمية مسرح الطفل والمسرح المدرسي في حياتنا المسرحية، وهوَ ما تنبهُ لهُ المؤلف "جبارة" عبرَ عوالمهِ البحثية، ولعلَّ أهمية الكتاب تكمُن في كونهِ يُعطي صورة بليغة عن أهمية الكتابة البحثية في مجال مسرح الطفل والمسرح المدرسي، والسعي حثيثاً لاستكناه مناطق اشتغالاتهِ، وتأكيد ماهية وأهمية حضورهِ الدائم، وهذهِ إحدى صفات المؤلف مُخرجاً وباحثاً عبرَ مُجمل عوالمهِ المسرحية بشتى تمظهراتها.