أجمل رسائل النساء

ثقافة 2022/05/07
...

 لور أدلر
 ترجمة: كامل عويد العامري
        
كانت المراسلات هي المكان الذي تصوغ فيه النساء هويتهن من خلال تحرير أنفسهن من القوالب التي وضعها المجتمع. وعلى هذا الأساس أيضًا فتحْنَ طريقًا للأدب كان حِكْرًا على الرجل. في هذا الكتاب الغني بالرسوم التوضيحية، تدعونا لور أدلر وستيفان بولمان إلى إعادة النظر في مراسلات نحو خمسين امرأة: من الأميرة بالاتين، شقيقة زوجة لويس الرابع عشر، إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، ومدام دي سيفيني، وجورج صاند، وكوليت، إلى أنيس نين، ومارغريت يورسينار، وسيمون دو بوفوار... صدر الكتاب بالألمانية بعنوان "أُحب الرسائل، أعيش مع الرسائل" 2008، وترجم إلى الفرنسية عام 2012 بعنوان (أجمل رسائل النساء).
لقد قيل عن النساء إنهن، بحكم التعريف، بامتياز، حتى بطبيعتهن - ما يسمى بالطبيعة الأنثوية - كاتبات رسائل ذات طبيعة أدبية. هذا القول ليس صحيحًا، وهو أحد الكليشيهات العديدة التي تفسد تاريخ المرأة. في الواقع، تاريخيًا، إذا أشرنا إلى الأعمال الأكاديمية المكتوبة حول هذا النوع من الأدب، يتضح أنه في القرن السابع عشر، تم إدراج 2 بالمئة من النساء ككاتبات لهذا الجنس الأدبي، و 5 بالمئة فقط في القرن الثامن عشر، وتؤكد دراسة من خلال بحوث لروجر دوشين (3 فبراير 1930 - 25 أبريل 2006) وهو كاتب سيرة فرنسي متخصص في رسائل مدام دي سيفيني)، الذي يذكرنا بأن الرسالة، وهي فئة نثرية رئيسية مع الخطبة منذ العصور الوسطى، مخصصة لـ "النفوس العظيمة"، أي الرجال وعلى وجه الخوص أولئك المجبولين بالثقافة اليونانية- اللاتينية.
ولأنَّ الرسائل مكتوبة باللاتينية، أسهم إيرازموس (1466 - 1536) وهو فيلسوف هولندي، من رواد الحركة الإنسانية في أوروبا) في تعزيز هذا الجنس الرئيس بدراسة (عن طريقة كتابة الرسائل) في عام 1522، من خلال إدخال "مبدأ اللانهاية" في الرسالة الذي يكسر الدائرة "التي كان المتحذلقون البربريون يريدون حصر جنس أدب التراسل فيها".
ومع ذلك، كان الرجال مثل فواتور، وبينشين، وغوز وبلزاك، هم الذين جعلوا من النساء ملهمات، ثم سرعان ما أصبحن عشيقات لهذه المواجهة مع أنفسهن، ولهذا الانجراف في المشاعر، ولهذه الممارسة المذهلة للغة  وإغراء الحب، لما لم يعد يسمى بالرسالة بوصفها استعراضا لروح الإيجاز، لكن رسالة المرأة كما كان جان دي لابرويير (1645 - 1696)، يؤكد في كتابه (الطبائع)، أنها قد ابتكرت هذا الجنس وأنها تتألق فيه أكثر بكثير من الرجال: "هذا الجنس يتجاوز جنسنا في هذا النوع من الكتابة. فهن يجدن بأقلامهن الوسائل والتحولات  والتعبيرات التي غالبًا ما تكون نتيجة عمل طويل وبحث مؤلم؛ إنهن سعديدات باختيار الكلمات التي يضعنها في نصابها الصحيح، لدرجة أن هذه الكلمات تمتلك سحر التجديد ويبدو أنها كتبت فقط للاستخدام في الغرض الذي كتبت من أجله؛ ولا تنتمي إلّا لهنَّ لقراءة المشاعر بكلمة واحدة، وتقديم فكرة حساسة بطريقة دقيقة وراقية... ".
حقا: لقد كانت النساء، منذ أن استطعن وعرفن ذلك، وبمجرد أن أتيحت لهن الفرصة - حتى عندما طال الحظر - "كاتبات" عظيمات. كان الجنس الأدبي الذي توارين خلفه في البداية بسيطا للغاية، والأقل احتمالًا للتسبب في الشقاق في دائرة الأسرة: الرسائل التي ترسلها إلى الأم لتخبرها عن أطفالها، والرسائل الفاترة الموجهة إلى الزوج أثناء الانفصال الأول، ورسائل السفر، ودفاتر الترحال التي تعبر عن الدهشة أمام جمال الطبيعية وكرم ضيافة سكان الأراضي البعيدة، والرسائل التي ترسل في زجاجات وترمى في البحر من دون معرفة ما إذا كانت ستصل إلى وجهتها.
لقد كتبت النساء، بحكم الواجب، الكثير. من أجل الحب أيضًا، أو بالأحرى من خلال الفكرة التي كانت لديهن عنه، من خلال رسائل الحب التي تحفل بها الروايات التي كانت تجعلتهن يحلمن... تداخل اندماجي أو تغوير Mise en abyme أدبي وتخيلات يتيح إلقاء نظرة على فكرة لا تزال غامضة... رسائل التعبير الصادق والحيوي عن المشاعر، رسائل التعاطف، رسائل الاعتراف، الرسالة تعني هنا المسافة والغياب والإسقاط في الخيال.
[لتوضيح مصطلح التداخل الإندماجي أو التغوير كما يسميه البعض هو عملية تمثيل عمل ضمن عمل مشابه، ظاهرة "فيلم داخل فيلم"، أو تضمين الصورة نفسها (في الاختزال) في صورة. يوجد هذا المبدأ في ظاهرة أو مفهوم "التشابه الذاتي"، كما هو الحال في مبدأ الأشكال الهندسية الكسورية أو المبدأ الرياضي التكراري.]
كم عدد الرسائل المختومة بعناية التي بقيت مخبأة في الأدراج، بين أكوام من الأوراق، وفي المحافظ، قبل أن تكتشف بعد جيلين أو ثلاثة أجيال ملفوفة بدقة ولكنها غير قابلة للقراءة مطلقا لأن الرطوبة قد التهمتها؟.
هل تكتب له لها آخر؟ لم يكن الأمر مؤكدا...
يمكن أن تكون الرسالة إشارة إلى التخلي عن الذات، وتعلم بناء هويتها، وطمأنة الذات. اليوميات والمراسلات لها حدود يسهل اختراقها: الهرب من السجن العقلي والنفسي والمادي الذي يسجنك فيه الآخرون، والتأمل في إمكانات الفرد الفكرية، وأحلام اليقظة الوجودية.
بحكم التعريف، لا يمكننا اليوم سوى الوصول إلى قلة قليلة من هذه الرسائل، لأن تلك التي جرى حفظها كانت بقرار من كاتباتها أو منفذي وصاياهن، ومن ثم في أغلب الأحيان من قبل نساء المجتمع الراقي، والنساء اللواتي حظين بشهرة واسعة، أو اللواتي كن يتوقعن أن يكونن جزءًا من ذاكرة الأجيال المقبلة في الغالب. إن ما يبدو أنه يتضح في هذا الأدب الخفي الذي هو أدب النساء التراسلي هو أنهن نجحن - بغض النظر عما يقوله بعض الناس المتذمرين- في صنع أعمال تنتمي لهن، من جنس أدبي، وغنائم، وكنوز، وتقوقع، ومسكن، وأوكسجين، وأنفاس حيوية.
لا تلمس رسائلي
سارع بعض الرجال، القلقين قليلاً بشأن مصدر الحرية غير المنضبط، إلى تصنيف هذا الأدب بوصفه أدبا ثانويا وتشبيهه بالأحاديث الجانبية. كما لو كانت رسالة المرأة مجرد تدفق للكلمات، وتسلية لفظية سيئة الإتقان، من دون محتوى حقيقي، مجرد انشغال لتمضية الوقت بين تحضير وجبات الطعام والواجب الزوجي، وبالنسبة لمن هن أغنى، مجرد تسجيل لذكرى محادثات مبهرة في الصالونات... إن رسالة المرأة خطرة على الرجل لأن موضوعها موضوعه، وجوهرها القول بدوام الحب. والمرأة التي تكتب الرسالة ليست هي التي تنتظر: إنها هي التي تستفز، بإيماءة الكتابة، والعاطفة، والانفعال، والرغبة.
في بعض الأحيان تضطر إلى المضي قدمًا مقنّعة لتحويل الحب إلى كياسة أو صداقة من أجل خداع الحمقى الذين يعتقدون أن النساء مذعنات: لنعيد قراءة رسائل مدام سيفيني أو رواية أميرة كليف لمدام دو لا فاييت- التي أثار غضب رئيس الجمهورية بشكل غريب. والتي ألهمت عنوان رواية لماري داريوسيك [صدرت روايتها (كليَف) عام 2011- م]. وكليف، بالنسبة لداريوسيك، اسم قرية تحدث فيها مبادرات جنسية غريبة واكتشافات لغوية. لكن كليف تبقى ولا تزال هي الأميرة، ويتردد اسمها عبر القرون وبين الأجيال الشابة كرمز للشخصية التي تجرأت على التصريح، والكشف عن مبدأ الحب ذاته، ثم التخلي عنه. هذا القرار الحسي، الذي لا يمكن إصلاحه، والذي لا مناص منه لهذا العذاب الطوعي لإمكانيات روحها وجسدها سيبنى، وسيتحقق، وسيُثبّت، وسيُعزز، وبفضل كتابة رسائلها.
ولأن الرسالة هي تدريب مهني تصبح، على نحو غير محسوس، تضخمًا للذات، وإيمانًا بإمكانيات المرء.
يمكن أن تكون الرسالة أيضًا واقعية وعابرة. تتحدث عن أخبار المطر والصحو. ولا ننسى أنها تظل الطريقة الوحيدة للتواصل. كما تقول مدام دي سيفيني، التي ابتدعت في القول من دون علمها (بعصيانها وحريتها في الروح وجرأتها في طريقة استخدام لغتها كما تريد): "لم تعد كتابة رسالة شأنًا. في القرن التالي، تضاعفت الرسائل لدرجة أنه في القرن التاسع عشر جرى تداول أكثر من مئتي مليون رسالة في فرنسا كل عام". تكتب لنقرأ، ولكن ليس فقط.  تفعل ذلك أيضًا لتخدع عزلتها، وطمأنة نفسها، ولتخترع لها حياة. في بعض الأحيان تعيد كتابة رسائلها لتجميل حياتها ومحاولة ترك صورة ذاتية أكثر توافقًا مع الأعراف السائدة، كما فعلت جورج صاند، بعد عشرين عامًا من تعاطفها مع موسيه وباجيلو، من خلال "المراوغة" في سردها، ومن خلال الرسائل الكاذبة لتخلق من دورها كضحية في هذا الشغف العاصف... استغرق الأمر فطنة جورج لوبين المتخصص بها ليكتشف، بعد مئة عام، إعادة كتابة الذات هذه. يمكن قراءة هذا العمل على أنه رحلة، أو كتاب قصصي، أو اكتشاف شخصيات تكشف، من خلال مراسلاتها، عن فصول غير متوقعة من علاقتها الحميمة، فضلاً عن رغبة شرهة في الالتحام مع الذات، سواء في لحظات النشوة أو في الاقتراب من عوالم غامضة. وتجدر الإشارة، من بين ما يذكر، إلى أن فترة الطفولة تظل الفترة التي تبلور فكرة هذا العمل الشاق المتمثل في العيش - على حد تعبير الشاعر الأيطالي  تشيزاري بافيزي-، حيث يظل الآباء أفضل المقربين للفتيات في حال الخلافات وأن الحب هو الأقل شأنا بين الجنسين وإن كان تقاربا بين الكائنات.
وهنا ننتهي برسالة قصيرة مرسلة إلى قارئ مجهول:
"أنت، الذي منحتنا لسنوات، في هذا التواطؤ مع ستيفان بولمان، الثقة في متابعتنا في رسم خرائط حب للنساء اللواتي يقرأن ويكتبن ويراسلن، لقد نجحت في تكوين نوع من المجتمع غير المرئي يربطه إحساس بأن تقرأ، يعني أن تعيش، وأن قراءة بعض المؤلفين وخاصة بعض النساء من لغات وأصول وقرون مختلفة، ساعدتنا، وأراحتنا، وفعلت لنا الخير. نحن مدينون لهم على ما نحن عليه. وممتنون لهم. لأنهم أتاحوا لنا الهرب من الشعور بالعزلة والقلق والانهيار العصبي. أن تعيش هو أن تقرأ أيضا".