(غابة أوروبا) لوالكوت: خبز الشعر الذي يدوم بعد انهيار الأنظمة

ثقافة 2022/05/07
...

  محمد تركي النصار

يخاطب المتكلم في هذه القصيدة وهو الشاعر ديريك والكوت نفسه، صديقه الشاعر جوزيف برودسكي الذي يرد ذكره في نهاية القصيدة لمرة واحدة فقط، إذ يجدان نفسيهما معزولين في جو شتائي معتم في أوكلاهوما، جالسين ويقرآن شعراً لبعضهما.
يتدرّج موضوع القصيدة من الشخصي إلى السياسي متنقلا بين الأزمنة والأفراد الذين حققوا تميزاً وحضوراً خاصاً بين كيانات سياسية واجتماعية واسعة، مع التركيز على تجربة الشاعر الروسي اوسيب ماندلشتام وإلهامه المكتنز بقوة الشعر وعظمة الموقف الإنساني النبيل.
 ثمة استخدام في النص للصور المتزامنة إذ يمزج والكوت تغيرات الفصول بتغييرات النغم في موسيقى السمفونية لخلق أجواء تهيئ لثيمات هذه القصيدة المكتظة بالرموز والإحالات التاريخية:
الأوراقُ الأخيرةُ سقطتْ مثل نغمات من البيانو 
تاركة أشكالها البيضوية ترنُّ في الأذن 
 إذ تبدو غابةُ الشتاء بتوقفاتها الموسيقية النشاز 
كأنّها اوركسترا فارغة 
تآلفتْ سطورُها على هذهِ المسوّداتِ الْمُبعثرة للثلج.
ونرى أيضاً استخداما للاستعارة الموسعة حيث صورة الثلج التي تتكرر في النص، بدءا من بيت الصفير ومسودات الثلج المتناثرة واستخدام الأصوات التي تسهم في خلق جو شتائي يناسب موضوع القصيدة الذي تشيع فيه نبرة الشجن والرثاء، فنرى الحروف تتبعثر عشوائياً مثلما تسقط أوراق الشجر على الثلج في الشتاء، وبعدها يتجمّع هذا الثلج حتى يتحول إلى عاصفة عنيفة من (المعاهدات والأوراق البيضاء) بينما لا نرى أثرا للفرد المغيّب في ما يسميها والكوت (القضية):
أوراقُ شجرة البلوط النحاسيَّة 
تشعُّ عبرَ زجاجِ الحائطِ البنيِّ
بينما تتصاعدُ أنفاسُ الشتاءِ
من أبيات "ماندلشتام" التي تُلقيها
وهي تنداحُ مثلَ دُخانِ السيكارة.
إنّها صورة موحشة، إذ نرى بياض الثلج الذي يطمس التاريخ ويمحو الذاكرة الجماعيّة للبشر الذين كافحوا وصارعوا وماتوا، هنا نرى أن (المعاهدات والأوراق البيض تشير إلى وثائق الحكومات التي بحسب والكوت كانت تعكس حالات الفوضى والاضطراب خلال التاريخ وكل من هذه الوثائق تمحو التي قبلها أو تحرفها إلى أن يضيع التاريخ الحقيقي للوقائع ويتم محو الذاكرة للجماعات والشهود الحقيقيين:
من؟
 ذلك الطفلُ الأسمرُ الواقف 
عند حاجز الشرفةِ
لأوروبا التي تراقب نعناع نهر المساء 
حيثُ جنيهاتها الاسترلينيةُ 
ممهورةٌ بعلاماتِ القوّة 
لا بِقصائد الشعراءِ 
إنَّ الإحساس بالمرارة يشيع في جو القصيدة بسبب تغييب وإغفال دور الفرد الذي يكافح ويجابه الأنظمة التسلطية القمعية ويدفع حياته ثمناً لكنه ينسى ويتم الاهتمام فقط بالمشهد السياسي العابر وصورة المجتمع العامة.
ويحرص والكوت في مقاطع القصيدة على إبراز دور (الفرد البطل) وهو هنا الشاعر الروسي (ماندلشتام) الذي قدم درساً نادراً في رفض الاذلال والانصياع فأعدمه ستالين في حين اختار العديد من زملائه مهادنة ذلك الحكم الدموي وقاطعوا الشاعر خوفاً على حيواتهم من بطش جلاوزة ستالين ومهادنيه.
تشع عبارة ماندلشتام بالضوء في غرفة معتمة تقع في اوكلاهوما الموحشة، ويعكس البيت الشعري هنا بعدا أثيريا سماوياً يتجاوز ذلك الجو المعتم بطاقة الشعر العابرة لليأس، بما تنطوي عليه من طاقة متجددة، إذ يقرأ جوزيف برودسكي بصوتٍ عالٍ لزميله والكوت أبياتا من شعر ماندلشتام المعبر عن أصالة الهوية ومكافحة الظلم في عالم الانسحاق المادي.  ظلام الغرفة، وكآبة اوكلاهوما وضعا جنباً إلى جنب هنا مع إشراق البيت الشعري، لإظهار خواء العالم الخارجي المادي، وكيف يمكن للشعر أن يغمر هذا الفضاء الموحش بالحيوي والإشراق.
يسمي والكوت شعر ماندلشتام (الخبز الذي يدوم) بينما تنهار الأنظمة السياسية، لإعلاء دور الشعر والفن اللذين يضعهما في المقدمة فهما يتجاوزان السياسي الزائل المحكوم بالفناء.  (غابة أوروبا) هي تحية للشاعر ماندلشتام، وفيها حس رثائي يحتفي برجل باسل سيبقى موقفه المضحي مناراً للأجيال، ومعروف عن والكوت أنه يكتب مرثيات موجعة وحزينة، لكنه ايجابي ومتفائل هنا لأنه يحتفل بقوة وعظمة الموقف الإنساني النبيل.
يستخدم والكوت الصور البصرية حيث يجتاز (القطار المار الرموز المعذبة للغابة): 
وبينما يجتازُ القطارُ 
رموزَ الغابة المعذّبة
تتغيَّرُ مشاهدُ الجليد
مثلَ ساحات الشحن 
أبراج كنائس الدموع المقرورة 
بخار زعيق المحطات 
هو يرسمها في شهقة شتاء واحدة 
تحوَّلَتْ حروفها الساكنة المتجمّدة الى أحجار.
وتتوالى الصور مازجة بين تجليات الداخل ومشاهد الخارج مستحضرة إحالات وأبياتاً من شعر ماندلشتام، حيث ساحات الشحن، ونقل المحكومين بالإعدام ومعسكرات النفي في سيبيريا مستفيداً إلى حد كبير من التكنيك الشعري التصويري الذي استخدم للمرة الأولى في بواكير القرن العشرين لاختطاف صور شعرية متلاحقة بطريقة فيها استفادة من التقنيات الفوتوغرافية والسينمائية.
وتتسلل إلى بعض مقاطع النص نبرة الإحباط عندما يتطرّق والكوت إلى قضية الفساد في بلده ترينداد حيث الحكومات هناك معروفة بالتضليل والخداع ونهب قدرات الشعوب، واصفا (أرخبيلات جنوب بلده) بالسجون أيضا خالقا مستوى متوازيا بين حالة الإحباط التي يشعر بها وطاقته وتصميمه على الكفاح ضدها.  وبعيداً عن السجن الجسدي والقمع الذي واجهه الكتاب الروس في عهد ستالين والحكم الشيوعي الشمولي، يشعر والكوت بأن جزر الكاريبي حيث ينتمي ويقيم هي سجون أيضا بسبب اعتمادها الكلي على السياحة التي تذهب كل أموالها في جيوب الحكومات الفاسدة:
أرخبيلات جنوبي السياحيَّة 
هي سجونٌ فاسدةٌ أيضاً 
رغم أنَّ لا سجن أقسى 
من كتابة الشعر 
وما هو الشعر 
عندما يكون جديراً بهذا الاسم حقَّاً 
إن لم يكن عبارة يمرِّرها البشر 
من اليد الى الفم عبر القرون 
الخبز الذي يستمرُّ عندما تنهار الأنظمة 
حيث في غابته التي غصونها 
مُكبَّلة بالأسلاك الشائكة 
يدور سجين ماضغاً العبارة الوحيدة
التي ستدومُ موسيقاها أكثر من الأوراق 
 المنفى ليس تبديلاً جغرافياً للمكان، بل هو ثقافي أيضاً، فالمخاطب في القصيدة، الشاعر جوزيف برودسكي، والمتكلم، والكوت نفسه كلاهما منفيان من وطنيهما، وها هما في القصيدة، مغموران بأجواء العزلة وكآبة الشتاء بمشهد في اوكلاهوما، وبالرغم من اختلافهما ثقافياً وانتمائهما لبلدين متباعدين إلا انهما يجدان نفسيهما متوحدين بمصير واحد هو مصير النفي في أميركا التي لا ينتمي أي منهما لها. يعبر والكوت في العديد من قصائده عن صعوبة كتابة الشعر وحالة الاستنزاف التي تسببها هذه العملية التي يصفها مرات بالمرض واصفاً شعر صديقه ماندلشتام بالحمى المقدسة والنار التي جمرها (يدفئ أيدينا) منحازاً لفكرة أن الشعر برغم الصعوبة والمعاناة يمتلك القدرة على عبور المكان والزمان لإدامة المقاومة الروحيَّة ضد الأفول والخراب وتقديم طاقة ملهمة للأجيال بعد رحيل الشاعر عن هذه الحياة الفانية.