المُتيَّم سيرة البحث عن السعادة

ثقافة 2022/05/07
...

  ميسلون هادي
ننشر اليوم مقدمة كتاب (المتيَّم- سيرة البحث عن السعادة) للروائية ميسلون هادي، وهو كتاب استثنائي نسجته ساردة محترفة عن ناقد وأكاديمي كبير هو الدكتور نجم عبد الله (1951- 2020) زوجها ورفيق رحلتها الحياتية والكتابية، فيه تستنطق أدق التفاصيل وتحاور ما وراء اللغة بحثا عن لغة جديدة.. لغة متيّمة تغمس حروفها بحبر المحبّة الأزليَّة.. هو كتاب في السيرة.. وفي الحياة وفي المعنى.. الكتاب سيصدر قريباً عن دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ـ بغداد.
ما يأتي من الكائن يعلق في الكائن،
محتاراً، ناسياً طريق العودة.
جلال الدين الرومي
 
عندما كنت صغيرة كنت أظن القمر الذي نراه فوق بيتنا، هو غير القمر الذي نراه فوق بيت صديقتي، ولما كبرت قليلاً ضحك الجميع على ظني الغريب هذا، ثم كبرت أكثر فوجدت فعلاً بأن لكل واحد منا القمر الذي يراه.. وأنا قد نظرت إلى القمر في منازله الكثيرة، فوجدت فيه صوراً جميلة وأشكالاً مختلفة منذ التكون وحتى الاختفاء. 
هذه الكلمات المنشورة في هذا الكتاب، كتبتها على صفحتي في الفيس بوك على مدى عام كامل، وكانت في البداية تعبر عن حالة الصدمة التي عشناها بدخول نجم إلى المستشفى إثر إصابته بجلطة مفاجئة داهمته أثناء العودة إلى البيت.. وما هي إلا أيام حتى أصبحت المستشفى هي بيتنا، وتحولت الصدمة إلى حالة من الانتظار الممض على أمل خروجه منها، لكن هذا لم يحدث، فوجدنا أنفسنا داخل حالة انتظار مختلفة ما زالت مستمرة حتى الآن.. في تلك الأيام طالبني بعض القراء الأعزاء للصفحة أن أكتب عن نجم وسنواتي معه، فسألت نفسي ماذا سأكتب؟، وكيف سأكتب؟. لقد عشنا حياة مستقرة هادئة وجميلة تخللتها بعض الهموم التي تعترض كل البيوت.. وكان المختلف فيها، بل أهم ما يميزها، هو وجودنا داخل حلم الكتابة المشترك الذي انتمينا إليه بعمل دؤوب، فجعل حياتنا تسير بسلاسة الحلم الخالي من التبرم والشكوى.
هذا الحلم كان يمنحنا الألفة والتقارب من بعضنا البعض في مساحة رحبة تجعل أسرتنا تتعلق بوجوده الجميل، وتعيش حياة هانئة مع من منحها الحنان والأمان.. والسعادة إحساس لا يعني بأنها متحققة أو موجودة بشكل دائم، وإنما قد يعني بأن توقعها متغلغل في الهواء من حولنا، وسوف يتحقق ويحدث مع المتيم الذي نريد أن نبقى معه منذ الغد وحتى الأمس في هذه الدنيا، ونجم هو هذا المتيّم بأولاده، والمتيّم بأسرته، والمتيّم بالدقة في عمله الأكاديمي، والمتيّم بالسرد العراقي الذي أعلى من شأنه في كل المحافل العربية والدولية، والمتيم بالإخلاص في كل دور يقوم به، وقد ظل طيلة حياته يقاتل من أجل هذه الأحلام والغايات بقوة إرادة فريدة عز مثيلها، ثم استكملها بأحلام أولادنا الثلاثة أغلى ما عندنا في هذه الدنيا.. فأصبحنا نعلي معهم بنيان كل حلم من هذه الأحلام.. من دون أن نبخس حق حلم واحد حلمناه أنا ونجم.  
ولكل حلم حلمناه حكاية تروى. 
 
6 - 8 - 2020
نجم كان على مشارف السبعين عندما حدث ما حدث، ومع هذا فإن أغلب من كتب عنه عد رحيله ضمن تراجيديات الرحيل المبكر.. ولذلك أسباب كثيرة جداً، منها طاقته الإيجابية الكبيرة، وثروته المعرفية الفذة، فضلا عن أن كل من يراه كان يظنه أصغر من عمره الحقيقي، لما يتمتع به من فيض النشاط والحيوية، وما يملكه من ذائقة فتية حافظت على بهائها طيلة عمره.. فالوردة مهما كبرت وتفتحت فلن تجد في داخلها سوى وردة.. ونجم امتلك هذه الجدارة من الداخل، واستطاع المشي في مشوار المعرفة الطويل باستمتاع شديد، فالكتاب لا يفارقه أبداً.. سواء في عيادة أو مطار أو طريق..  وحتى إذا ذهب لتسلم الراتب، أو لغسل السيارة، فإن الدقائق التي يقضيها بالانتظار يجب أن يستغلها بالقراءة. وفي الصورة ستجدون كتاباً بدأ قراءته قبل فترة قصيرة، وهذا شيء طبيعي بالنسبة له أن يقرأ قليلاً قبل أن ينام، لكن الاستثنائي في حالة هذا الكتاب، هو أنه قد شعر مؤخراً بابتعاده عن اللغة الانكليزية قليلاً، فقرر الرجوع لقراءة بعض الكتب الانكليزية، ووجد الحاجة ماسة لتنشيط اللغة الثانية التي يستعين بها في مصادره، ويكتب بها الكثير من إيميلاته، وبالنسبة لعمره، فإن مثل هذا الدأب على طلب العلم هو أمر استثنائي، لأن عمرنا هو عمر عطاء المعرفة لا الأخذ منها، ومهما كنا نحاول ذلك، فطبيعتنا تغلبنا، وتظل العلاقة مع الكتاب متعتنا وزادنا الذي لا غنى عنه طوال الوقت.. بمثل هذه الحيوية والشباب كان (نجم) يقطع الوقت دائماً، ولهذا وصف الجميع رحيله بالمبكر، وكانت الصدمة بهذا الرحيل المفاجئ شديدة.
هذه الصدمة تعني، في وجه من وجوهها، العبثية التامة وغياب المعنى، وتعني أيضاً، في وجه آخر، البحث المضني عن المعنى الذي يتبقى.. فقد قيل بأن أي أحد منا يستطيع عد البذور الموجودة في التفاحة، ولكن لا أحد يستطيع أن يحصي التفاح الموجود في هذه البذور.. وهذا المعنى الذي سأتشبث به، هو أعماله ومخطوطاته التي يجب أن أجعلها تصل القراء.. وأيضاً مواصلة عملي، الذي كان يحبه أكثر من عمله، بل كان يهمه ويسعده أكثر من تحقيق أي شيء آخر يخصه... هكذا كان التفات أحدنا لعمل الآخر هو الذي يزيد من اقترابنا، ويخلق الاكتمال مع بعضنا البعض.
 عادة ما أجلس على الأريكة أثناء الكتابة، واللابتوب في حضني، وهو يجلس على مكتبه قريباً مني.. كنت أرفع رأسي أحياناً لأسأله عن كلمة أشك في إعرابها، فيرد عليَّ بطريقة تجعل الجواب راسخاً في ذهني للأبد.. وهو أيضاً كان يقول إنَّ لغة الروائية فيها من الطراوة ما يخفف من جفاف لغة الناقد، فيسألني الرأي في جملة يريد إعادة صياغتها على نحو أكثر حركة وليونة.. الآن ألتفت إليه.. فأجده موجوداً في مكانه حتى أعود إليه.
 
11 - 8 - 2020
أشكر جميع الذين بعثوا بكلمات المواساة، سواء من المعلقين والأصدقاء الأعزاء، أو ممن اتصلوا بي، أو كتبوا الرسائل على البريد الخاص، ومن هذا البريد الأخير انتقي رسالة فيها سؤال من سيدة تقول بأنها بدأت تتابع صفحتي بعدما لمسته من مشاعر الانتماء لزوجي في كتاباتي الأخيرة عنه، وسألتني في رسالتها: ما السر في ذلك، وما الذي يميز هذا الرجل عن باقي الرجال؟ وسأروي لها ولكم حادثة بسيطة جرت في ندوة حضرناها قبل أعوام في دار المأمون.. كنت أنا أجلس مع الحضور، ونجم يجلس على منصة الحوار، وقبل أن تبدأ الندوة، وصلت أسماعه كلمة من إحدى الحاضرات في الصف الأول، تعرّف زميلة لها بالمحاضر الدكتور نجم، وتقول لها بأنه زوج ميسلون هادي، ضحك نجم وأكد لها هذه المعلومة، ولم يكن ليتضايق منها أبداً، بل كانت تسعده جداً، سواء بعد أن أصبح أيقونة واسما كبيراً فاعلاً في عالم النقد والأدب المقارن، أو في بدايتنا وأوائل شبابنا، عندما كان أستاذه الراحل الدكتور عبد الإله أحمد يناكده بها، كلما يريد تقديمه لشخصٍ ثانٍ، فكان نجم بحكم نبله وعلو إيمانه بنفسه، يجد من الطبيعي أن يكون سحر الرواية أكثر حضوراً من صرامة النقد الذي لا يتابعه سوى المختصين به... أما بالنسبة لما هو أعمق من ذلك، فكنت أعرف بأنّه المتيم الذي يفخر بزوجته، ويدعمها حتى وهي تعيش في عالم من الأحلام، سارحة في دنيا الخيال لا تؤذي أحداً، ولم يؤذها أحد.. تحب الجلوس في دنياها داخل البيت، وعند خروجها ترجع إليه من دون الإلتفات إلى أي شيء خارج ما تريده من هذه الدنيا. فأمام كل شيء موجود، يوجد شيء غير موجود، ولو سنحت لها الآن لحظة من لحظات السكينة والهدوء تلك، فلن تتذكر ما تتذكره الآن، ولن تلتاع مما هي فيه الآن.. وحتى لو كانت تمارس عملها كربة بيت، فمن الأفضل عدم الاستعانة قدر الإمكان بالأجهزة الكهربائية لتمشية شؤون المنزل، فكان كلما يراها تستعمل المكنسة أو الممسحة اليدوية يقول لها حرام أن تمسك بشيء سوى القلم.  
كنت أقول له إن الباب تنتفح على الحلم عندما أريد، فأنفصل عنها إلى عالم آخر، وأنشغل بالأفكار التي تأتيني أفضلها أما أثناء المشي، أو وأنا أنجز أعمال البيت اليدوية.. وكان نجم يساعدني فيها دائماً، ليس فقط لكي يوفر لي وقت الكتابة، أو لأنه يُشفق على يدي من حساسيات كثيرة، ولكن لأنه كان مؤمناً بي وبأحلامي إلى أبعد الحدود.. هذه النوع من الرجال كان هو عزيزتي صاحبة السؤال. والرد على السؤال يحتاج إلى كلام كثير.
 
13 - 8 - 2020
إذا كان الأصدقاء والزملاء والطلاب قد كتبوا ما كتبوا من إحساسهم بالصدمة في رحيله، فكيف الحال مع أولاده أحبته وروحه من هذه الدنيا.. إنهم لا يفتقدون الآن الأب والصديق والحبيب فقط، وإنما مكانه الذي كان يشع سعادة ومرحاً على أرجاء البيت. هنا يتحتم على الأم أن تكون بحال متماسكة، لكي يكونوا هم بحال جيدة ومتماسكة، وأن تحول مصب الدموع الحارق من العين إلى القلب مباشرة، فتسير الحياة معهم بشكل طبيعي كما سارت معنا نحن من قبل.. ولأنّهم لم يتقبلوا هذا الرحيل الصادم حتى الآن.. راحوا يتحايلون على الألم الشديد بإيهام الدماغ بأنه مسافر. ونجم فعلاً قد سافر كثيراً، ففي وقت الحصار، عندما ضاقت سبل الحياة على العراقيين، اضطر نجم لترك عمله هنا من دون استقالة، وتوجه إلى الأردن ثم ليبيا، في رحلة برية مريرة كتب عن بعض مصاعبها في مقالة منشورة على الانترنت عنوانها (الصول والرئيس)، وكانت تلك الرحلة الصعبة اضطرارا حمل معه معاناة حزن شديد في ظرف عصيب، فكانت ورطة ما بعدها ورطة بالنسبة لمن تحمل فراقنا على نار، وبالنسبة لمن تركهم وراءه في حزن أمر على أمل لقاء تأخر طويلاً وجعلنا في حالة مربكة من الافتقاد.
أتذكر إشارته، وهو يغادر بالسيارة إلى كراج العلاوي، بأنه سيُلحقنا به في غضون شهرين، فاذا بعامين ينقضيان والسفر متعذر تماماً، فاحتاجت تلك الفترة منا إلى صبر وجلد شديدين، لأن الأولاد كانوا في عمر المدارس، وأنا أخرج للعمل كل يوم، وليس من الوارد أن نتخذ قراراً بعودة نجم إلى العراق بعد الضائقة المعيشية التي مررنا بها بسبب ظرف الحصار. وهنا أصل إلى نقطة مهمة أجد من الضروري استرجاعها، وهي أن آمالنا في تلك الأيام لم تتحول إلى كرب عظيم، أو تجعلنا صعوباتها نعيش في تراجيديا، فقد تأتي النجدة من مكالمة مفرحة، أو صوت أغنية، أو نجاح يحققه الأولاد، كما أن ذلك الظرف لم يمنع من أن تكون الكتابة نوعاً من التعبير والتعويض عن الأيام الخانقة التي عشناها، أو أن نقرأ أنفسنا داخل حيز جديد من الأفكار التي ترتطم بسطح جديد. فتوسع نشرنا في الدوريات العربية، وتحولت تلك الأيام إلى ديك فصيح يترجم ما تدلي به الدنيا من أقوال ودروس.
تمكنا بعد عامين من السفر مع دفع رسوم باهضة، وكان نجم قد ترك عمله في جامعة عمر المختار الليبية، والتحق بجامعة الحسين في الأردن، فوفر لنا ذلك قيمة صكوك السفر، وسافرنا إليه في عمان، ثم عدنا إلى بغداد بعد عامين، ليذهب هو إلى سلطنة عُمان في عمل جديد.. كان الأولاد قد كبروا قليلاً، وأصبحوا في المراحل المتوسطة والثانوية، بحيث فضلنا انتقالهم من المدارس الأردنية إلى مدارس العراق، وليس إلى بلد آخر، وهذا النوع من الاستقرار كان مألوفاً أن يحدث، على أمل أن يتغير الوضع ونتمكن الخروج من وضع التباعد الذي كنا فيه.  وبغض النظر عن أية فكرة عاطفية تسبب بها حماسنا للبقاء في العراق، فقد عرفنا بأن الحياة ستكون صماء عديمة المعنى، إن كانت ستستمر في أية غربة جديدة نختارها.. أو نستبدل فيها طريقاً سالكاً بطريق مهجور ومختلف. 
بعد العام 2003، عاد نجم من عُمان إلى العراق.. وكان اللقاء هو أبهج صورة للحياة في وجه مشكلات الحرب ومخاطرها التي تجلت على شكل تفجيرات يومية تحدث بمحض الصدفة.. وأتذكر عندما دخل الستلايت إلى العراق جاءنا الضابط السابق إلى البيت، وهو الذي قام بتنزيل جميع القنوات العراقية والعربية والإخبارية على طبق منصوب فوق السطح... قال لنا بأنه خريج هندسة الكهرباء، وكان يعمل في التصنيع العسكري، ولم يجد عملاً يقتات به سوى نصب أجهزة الستالايت.. فانتبهنا أن الدنيا قد تغيرت، والباب المغلقة انفتحت على الفوضى وصداع الرؤوس.. ومع هذا بدت لنا تلك الأيام فارغة من الهموم، ولا شيء فيها سوى الصدى الجميل لبيت جديد. 
هذا ما كان عليه إحساسنا.. تصورنا أن العالم يولد للمرة الأولى، وأننا نستعيد الإحساس برائحة دنيا جديدة نراها للتو، ولأننا مع بعضنا البعض، فقد بقيت حياتنا تسير، كما تسير الحياة في البلاد كلها، بالأمل الذي يستثني المخاطر من الوجود، بل ويستطيع أن يرسم سيناريوهات تفاديها وتجبنها بكل طريقة ممكنة، ولم يكن الاستمرار مستحيلاً في ذلك الجو من التحايل على الاضطرابات الأمنية، والمواجهات العشوائية التي كانت تحدث بين أطراف معروفة ومستترة، ثم أصبح هذا جزءاً من تدربنا على البقاء في سنوات المحن تلك، وحمداً لله كنا نخرج في كل مرة من تلك الظروف الصعبة بسلام آمنين، ولكن أين تذهب يا صعلوك بين الملوك؟. فقد جاءت اللحظة التي حدثت فيها الحرب الطائفية عام 2006، واشتعلت منطقتنا بالأحداث الدامية، وما هي إلا شهور حتى تفاقم الوضع سوءاً، فأخرجنا نجم إلى عمّان في فجر يوم عصيب، وبقي هو يداوم في جامعة بغداد في ظروف المواجهات التي كانت تحدث في منطقتي الفضل والباب المعظم القريبة من كلية الآداب.. أصبحنا في حالة سفر دائم بين بغداد وعمان حتى التمَّ شملنا بشكل نهائي عام 2010، وكان قرارنا النهائي هو الاستقرار في العراق، مع أن خيار الهجرة كان متاحاً وسهلاً في تلك السنوات.
كانت فترات الفراق الثلاث تلك صعبة في حياتنا، لأن نجم من النوع الذي يترك غيابه من البيت نقصاً يصعب التأقلم معه، مع هذا فالمسافات ليست كثيرة التباعد، وهو موجود بالنسبة لي ولأولادنا حتى عندما يكون بعيداً عن الأنظار أو خارج نطاق المكان، فالتواصل بيننا كان ممكناً، سواء بالسفر، أو بعد أن استجدت اتصالات الموبايل أو السكايب أو الماسنجر. كما أننا عشنا حياتنا بإحساس مؤكد وإيجابي بأننا بعد كل محنة، سنعيش في راحة وأمان في الأيام المقبلة.. وهذا ما كان يحدث بالفعل، إذ كنا نخرج من سنوات الانتظار التي تخللت حياتنا سالمين، فيتمّ نسيان مشاقها ما أن نلتقي، والبهجة هي كل ما يتبقى بعد النسيان، حتى نصبح وكأننا نطير على سحابة بيضاء. 
أذكر جيداً في مرة من المرات بأننا كنا أنا ونجم نسير في شارع 14 رمضان.. فنظر المارة إلينا بكثير من الاستغراب، ولم يبقَ أحد التقانا في الطريق من دون أن يلتفت إلينا، فانتبهنا إلى أننا قد مشينا مسافة طويلة ونحن نضحك ونمزح في ظرف كان مدلهماً وكئيباً جداً في تلك الفترة.... الأمر مختلف إذن عند اللقاء بعد الفراق.. يبدو مثل رائحة مكان أو شيء جديد. كأننا عندما نراه نشعر بأننا نجلس في بيت مصبوغ للتو حتى أزرار الكهرباء فيه بيضاء كالحليب.. تشرق الشمس عليه للمرة الأولى، وتعزف مع الروائح الطازجة للسمنت والطابوق فرحتها في بيت جديد وجميل. 
هناك شيء مهم آخر تعلّمنا إيّاه تلك التجارب، وهو أن الدنيا ليست دائما حلماً من الأحلام الوردية... نحن الآن في خضمها.. تحركنا كيف تشاء، وتجعلنا نشتق منها أصعب وأسهل حالتها.. ومن ثم تحفز القوة لدينا، وتغني تجاربنا وتثريها حتى إن كان ذلك بطريقة صعبة، فيكون علينا أن ننبذ الثوب القديم عندما يحل الثوب الجديد، ونفكر بلمتنا وانشغالاتنا وفرحة اختيار ملابسنا.. الباينياغ الغامق لمؤتمر أدبي، أو السمائي لحفل تخرج، أو الوردي لزواج أحد أبنائنا.. وهكذا حتى تكتمل الأنشودة. 
الغريب أن ثمة إحساسا لا يزال يداهمنا بأن هذا الفراق سينقضي ويعود كل شيء على ما يرام. وهو شبيه الإحساس بأننا نعيش حياتنا وقد نسينا شيئاً مهماً في مكان ما، وعندما سنعثر عليه سترجع الأمور كما كانت عليه. ولهذا أقول بأننا لو انتبهنا للمكان القديم لوجدنا فيه الصديق الوفي الذي يستر على الحزين، ويمسح جروحه، لأنك لو نويت الخروج في يوم جميل، أو المشي في منطقة ساحرة، فستجد المكان الحلو الجديد لا ينسجم مع قلب مكسور.. سترى الجمال ولا تشعر به، وغير مستعد حتى للتفاعل معه، فما يتبقى هو أرباع وأنصاف وأجزاء متفرقة.. أما الكل فباقٍ في القصر الذي تعيش فيه مع نفسك، وحتى لو أُطفأت الأنوار في القصر، واحدة بعد أخرى في الممر الطويل، فستبقى غرفة واحدة، يظل النور منبعثاً منها طوال الوقت لأنه فيها.. وكما ذكرتُ في (الغرفة وضواحيها) فإنَّ العمر الحقيقي للإنسان هو ما يفكر به قبل أن ينام.. فإذا كان يحلم بالحبيب، بالخلوة معه، بلثم يديه، وضمه بين ذراعيه، فهو في فورة الصبا وعمر الشباب، أما إذا هجم الظلام عليه، وجعله يستعيد الأوقات المنقضية في مكان مؤلم، فهو قد شاب وشاخ وانشرخت روحه حتى لو كان شاباً.
 بالنسبة لنجم فقد كان، بحكم إيمانه الشديد، متصالحاً مع فكرة الموت، ويعتبره رحلة أخرى وسفراً نحو المطلق.. أما بالنسبة لأولاده الذين تغشى قلوبهم سحابة الدموع على مكانه الخالي، فالقصة بدأت ولن تنتهي. سيدركون أن النقصان هو سمة من سمات الحياة.. وأن حالة الحزن ستولد من بعدها صفحة جديدة بحياة مختلفة.. وأن عليهم عاجلاً أو آجلاً أن يتأقلموا مع فكرة النقصان، التي، حتى وإن تقبلوها، ستجعلهم يضعون علامات استفهام كبيرة أمام أي وقت مقبل تعترضه ومضة بهجة أو ضوء.
 
15 - 8 - 2020
بعض المعلقين الأعزاء من طلبة الدكتور نجم يذكرون بأنه دائماً ما يشير إلى اسمي في محاضراته، ويرجح كفتي على كثيرين في مجال العمل الروائي، وأنا كنت أعرف ذلك، وكنت انتقده عليه، لما في الأمر من خصاصة، فيقول لي إنه لا يخشى أن يطعن أحد في علميته، لأنه واثق من موضوعيته وحياده.. فكان يحلو له ذكر اسمي في كل منبر أو مناسبة، وينزعج إذا تجاهلني أحد في دراسة أو مقالة عن مرحلة أو ملمح ما في السرد العراقي. كان يظن بأني استحق هذا، ويدعم هذا الاستحقاق الذي يؤمن به بكل حب.