برونو أربايا.. خمول السأم

ثقافة 2022/05/09
...

   إسكندر حبش*
عرف خريف العام 1934 في اسبانيا سلسلة طويلة من الإضرابات والتظاهرات والثورات الصغيرة التي سرعان ما أخمدت وسحقت بعنف. لم يكن الوضع مشابهاً، في البداية، في منطقة “الأستوريس”، لذلك جاء عصيان تلك المدينة، الذي قام به عمال المناجم، لأسباب سياسية أكثر من كونه عائدا لأسباب اقتصادية. من هنا وجد شعار “يا عمال العالم اتحدوا” بين كل الأحزاب العماليَّة التي كانت منقسمة على نفسها لغاية ذلك الوقت.
 كان ثوار تلك اللحظة، يملكون السلاح والديناميت، مثلما كانوا منظمين بشكل جيد، فقاموا بالهجوم على مراكز “الحرس المدني” والمباني الدينية ومراكز بلديات المدن والقرى المجاورة. في أقل من عشرة أيام، تحرك أكثر من ثلاثين ألف عامل ليشاركوا في هذه المعركة.
 معركة أوجدت أسبابها الخاصة بها، إذ سرعان ما أحرقت الكنائس والأديرة، البطريركية والقسم الأكبر من جامعة “أوفيديو”. قتل بعض رجال الدين أما الحرس المدني فقد وجد الوقت الكافي ليحمل السلاح وليضع قطار الموت على سكته المعتادة كي يحصد المئات عبر عمليات الإعدام المتنوعة المشارب والأهواء. لم تستطع مدريد أن تبقى صامتة إزاء ما يجري، لذلك قامت بإرسال الجنرالين غوديد وفرنكو على رأس بعض الكتائب العسكرية النظامية التي اصطحبت معها جنود الفيلق الأجنبي ومجموعات المقاتلين المغاربة. بعد مرور شهر، أخمدت الانتفاضة ليحل مكان “الرعب” الذي زرعته فصائل العمال رعب آخر، كان بطله هذه المرة الجنود النظاميون. الحصيلة الجديدة؟ ألفا قتيل، ثلاثة آلاف جريح، ثلاثون ألف معتقل. من دون أدنى شك، كانت اسبانيا سائرة بخطوات واسعة نحو الحرب الأهلية التي اندلعت “رسمياً” العام 1936، أو لنقل إنها كانت “البروفة” عما ستكون عليه الحرب الأهلية في ما بعد.  ليس ما تقدم درساً في التاريخ، بل إنها القصة التي يرويها الكاتب الايطالي برونو أربايا في روايته الأخيرة “الوقت الضائع” (منشورات ليانا ليفي) عنوان لا بد أن يثير ذكريات أليمة عند العديدين.  قبل روايته هذه، كان الكاتب نفسه قد أصدر رواية بعنوان “الحدود الأخيرة”، التي عرفت نجاحا ملحوظاً والذي يروي فيها لحظة هروب الفيلسوف الألماني والتر بنيامين من بلاده ومن النازية، بعد وصول هتلر إلى السلطة. من ألمانيا إلى باريس، كانت رحلة الفيلسوف، وفي مكانه الجديد وجد الوقت كي يكمل العمل على مشاريعه الكتابية التي ساهمت في شهرته فيما بعد. بيد انه لم يعتد كونه منفيا، إذ لم يكن يملك الموارد المادية التي تجعله يحيا بشكل كريم. من هنا لم يجد بداً من الذهاب والإقامة في أحد المخيمات الفرنسية “التي اقيمت بعيداً عن العاصمة، لاستقبال اللاجئين”. وفي هذا المخيم يلتقي الفيلسوف بلوريانو ماهوخو، وهو ملازم في الجيش الجمهوري، اجتاز الحدود هربا من الحرب الأهلية، ليجد نفسه في المخيم، قبل أن يهرب بعد فترة ليعود ويلتحق بجيشه لمواصلة النضال ضد الفاشية. من هنا نجد في “الحدود الأخيرة” هذا الحوار الطويل الذي دار بين المقاتل الجمهوري والفيلسوف الألماني والتر بنيامين (نعود لنجد في الصفحات الأخيرة من “الوقت الضائع” إشارة إلى هذا الحدث) قبل وقت قصير من انتحار هذا الأخير في 26 أيلول من العام 1940.   تعود إذاً رواية “الوقت الضائع” لتستدعي حرب اسبانيا التي يعرفها الكاتب جيداً، فهو أحد كتّاب صحيفة “لاريبوبليكا” الايطالية الفعّالين كما انه أحد الإيطاليين المختصين بالآداب الاسبانية.
  كما في كتابه السابق، ليست حرب الأخوة هذه، إلا حجة ووسيلة لطرح سؤال أوسع انطلاقاً من حادثة تاريخية معينة. فمثلما وجدنا سابقاً عند كتّاب كبار مثل همنغواي ومورافيا ومالابارتي ويونغر، نرى أن الحرب تستعمل هنا وكأنها أداة لكشف العواطف البشرية الدفينة. لم يكن لوريانو، الراوي (وهو الروائي عينه الذي كان موجوداً في الكتاب الأول)، قد تجاوز العشرين من عمره حين اندلعت الحرب، التي جاءت لتبعده عن هدفه الرئيسي في الحياة الذي وضعه نصب عينيه: التعرّف على النساء وملاحقتهن. خيار في الحياة لا بدّ أن يستدعي خيارات أخرى.  تبدو رواية “الوقت الضائع” وكأنها صيغة أخرى من رواية “الحرب والسلم” (تولستوي) التي يهجّنها مع رواية “لمن تقرع الأجراس” (همنغواي). أذكر هذين الكتابين لأنه يبدو أنه ورث من الكتاب الأول ذلك الحس بالعبث الذي يموضع بشكل ساحر مفهوم المطلق. من هنا نجد أن العنصر الأخلاقي يتآخى مع العنصر الفلسفي ليصنع في مسار رؤيته كلّ هذا الاتساع الذي يلفهما. أما من الكتاب الثاني فنجده يقوم بقراءة معاصرة لهذه الحاشية التي بدأ بها همنغواي كتابه والتي استعارها بدوره من الشاعر جون دون: “ما من إنسان إلا وهو جزيرة كاملة بذاته، كل إنسان هو جزء من محيط، جزء من الكل؛ إن حمل البحر جزءاً من الأرض فستتضرر أوروبا بأسرها... إن موت كل شخص يجعلني أتضاءل، لأنني متضامن مع الجنس البشري. لذلك إذا لا تبعث بمن يسأل لمن تقرع الأجراس؛ إنها تقرع من أجلك”.
 بهذا المعنى تشكل روايتا “الحدود الأخيرة” و”الوقت الضائع” نوعاً من لوحة فنية مزدوجة حيث نجد أن شخصياتهما تتحاور. إنهما كلعبة من المرايا المشوّهة المهداة إلى هذه الذاكرة المفقودة، إلى كل هذا الوقت الشخصي، الضائع، المبدّد، الذي وصفه ذات يوم الكاتب الفرنسي جان كوكتو بالأبدية المنطوية على نفسها. “الوقت الضائع” ليس في النهاية إلا هذا الوقت الذي ينساب ليتجمّع في نقطة تراجيدية واحدة: نقطة الإنسان الذي لا يستطيع الاختيار بين تشنجات القلق وخمول السأم.
* كاتب من لبنان