الأسطورة والبدئيات

ثقافة 2022/05/09
...

 ناجح المعموري 
الرمز طاقة معبرة عن المفهوم/ المعنى وقد ابتكره الإنسان، لأنه بحاجة إليه، ولا نستطيع البقاء بعيداً عنه، لأنه الفاعل والمحرك للكائن وهو متواجد في الحياة. ولأهمية الرمز وما ينطوي عليه من طاقات، جعل منه أحد أهم العناصر المكونة للأدب والفنون، ولهذه الأهمية والجلالة التي تمتعت بها الرموز، ابتكرها الإنسان وتحولت إلى مكون فاعل في حياته ولا يقوى على الاستمرار بمعزل عنها، لذا دائماً ما تجاورت وتحاور وإياها، وجعل منها الطاقة المانحة له الإصرار والعزم.
 
ولأن الإنسان في عتبة الحضارة واجه الكثير من المتاعب والصعوبات، ابتكر معتمداً على مخيلته شبكات رمزية، أسهمت برسم وتأطير أساطيره ومن قبلها طقوسه وعقائده، لأنها معاً، هي المعبرة عن الاندغام الحقيقي الحاصل بين الكائن والمحيط الذي عاش فيه، وطوعه من خلال عناصر معبرة عن الذكاء. في اللحظة التي يكون فيها بحاجة للرمز، المزود له بكل ما يحتاجه من مساعدات حتى ينتصر على القوى المضادة. وهكذا اعتاد الكائن على الرمزيات لأنها ذات معان حاضرة، مستمرة وغير قابلة للنفاذ، ولذا تحولت الرموز المقترنة بالمقدس وتفاصيله السردية والتي كانت وما زالت الأساطير جزءاً حيوياً وجوهرياً، لعب دوراً مركزياً في حياة وطقوس الكائن. ومثلما قال د. علي حرب بروح رمزية، لا تفسح مجالاً لغيرها.. أو على الأصح تستقي من عوالم رمزية وتلامس في تفاصيلها المنسية أنساقاً لا شعورية وبنى رمزية، بلا مماهاة إلا عبر الرمز، لان الرمز يربط بين الاشخاص، كما يربط العقل بين الأشياء.. فالذاكرة الجماعية، أقرب إلى أن تكون ذاكرة أسطورية.ولأن مساحة الرمز كبيرة جداً وهو المساهم بإبداع الفنون والآداب وكل ما له علاقة بالمنتوجات التي وجدها الإنسان ضرورية ومن حاجاته الجوهرية، هذا دال على أن الأسطورة ذات حضور مركزي في كل الطقوس/ العقائد، والشعائر/ والسحريات بوصفها مآلات ذات أصل أسطوري.وأعتقد بأن الرمز، خصوصاً تلك التي انبثقت عبر وساطة التخيّل الخلاق للكائن هي رموز بدئية، أولى، لها أصول بكرية اقترنت ببدايات التشكيل الديني، وهذا ما سنحاول الإشارة له عبر العناصر المعروفة للدين. الرمز كائن، موجود، خاتل وراء الكلمات، القارئ قادر بذكاء وفطنة على الدنو إلى الرمز، حتى وإن لم يتعرف عليه ويتلمسه. لا نستطيع تجاهل الدور الوظيفي للرمز، مثلما لا يمكن تناسي الوظيفة الخاصة بالرمز. وهذه الوظيفة ليست ساكنة، بل مستجيبة لسيرورة مرتبطة بالموضوعي واستدعاءات المحيط لما هو بحاجة إليه. من وظيفة، لذا يبتكرها أحيانا إذا كان الكائن قادراً على الابتكار والخلق، من هنا دائماً ما نلاحظ الحضور الوظيفي للرمز عبر المراحل الحضارية وهي تستجيب للمتغيرات، إذ تفرض حاجتها الجديدة كرمز مختلف، يتمتع بقوة المعنى الجديد والمختلف استطاعت البنية الذهنية الأسطورية من إجراء ما تفترضه هي بتطوير ما ظل جامداً، ولا يتناسب مع ما تحتاجه التحولات التي يجب التذكير بأنها ذات طاقة قوية جديدة، تدعو بقوة ووظفه كل ما تمتلك من حضورات ثقافية ودينية، لها محتويات رمزية ، طقوس، عقائد / وسحريات، لذا معروف للباحث الذي اشتغل على الفضاء الذي ظل معروفاً برموزه ذات المعنى المحدد والدلالة العميقة لكنه بعد النجاح في تحققات الانجذاب للصراع الثقافي والديني القول وصعود الرموز القديمة ذاتها. وهو يتطلب إبداع معنى متضاد عن المعنى، الخاصة بالرمز الذي معلوماً ومفهوماً بالسابق ومثلاً نجد بأن الأفعى في المرحلة التي تسيدّت فيها الام الكبرى كانت الحية رمزاً امومياً معبراً على الكثرة والخصوبة، أما في المرحلة التي انهارت المرحلة الأمومية نجد الأفعى/ الحية رمزاً فالوساً قضيبياً وبالإمكان معرفة الكمون في الدلالة الفالوسية.
ملاحظة تاريخ الفن وعلاقته مع سيرورة الثقافة والدين، ومعاينة الدور الذي لعبه الرمز فنياً، سنجد تبايناً في الوظيفة الفنية «الدافع الفضولي، والهدف التنويري، يتم عبر استخدام الرموز بما يتجاوز الاحتياج الفوري للفهم، لا الممارسة، الرغبة الشديدة في المعرفة تشجع، والاكتشاف يثير التواصل بالنسبة لاستيعاب فيتم التواصل معه وصياغة الهدف الأساسي للمعرفة ذاتها، ويعتمد عليه التطبيق العملي والمتعة والدافع الفهري والفائدة التواصلية. 
هذا الحضور الثقافي والفني الذي تمتع بالحضور القوي وقد لعب دوراً بارزاً ومهماً في صوغ السرديات التي تمخضت عنها المرحلة وأعني بها السرديات الاسطورية التي ذهبت إلى المقدس. بذل الكائن الكثير جداً من المتابعات والانشغالات لازاحة اللثام عن موجودات الحياة والعالم، لذا انشغل الكائن بالغايات والبدايات، وكانت وسيلته الى ذلك مرتبطة بالمرحلة التاريخية لتطوره نفسياً وعقلياً . فأعتقد ــ في البداية ــ أن العالم بكل مظاهره المتنوعة يخضع لترابطات وقوانين وقواعد معينة، وتصور أن معرفته بتلك الترابطات وقواعدها، تساعد في السيطرة على الطبيعة المحيطة به واخضاعها لرغباته ومصالحه. فهو يستطيع مثلاً استجلاب الامطار ــ عن طريق ممارسات سحرية معينة ــ تدفع الطبيعة مجيرة للاستجابة، كما يستطيع شفاء الامراض، والقضاء على الاعداء، ودفع الكوارث الطبيعية بالطبيعة نفسها، وقد تجمعت لديه عبر القرون مجموعة من القواعد تؤلف في مجموعها، سفراً متكاملاً للسحر، ولم يكن الانسان في ممارسته تلك يستعين بأية قوى خارقة او إلهية، لإيمانه المطلق بأن تتابع الاحداث يخضع لقانون معين هو اي جزء اصيل من الطبيعة ذاتها، لا خارجاً عنها ولا متعالياً عليها . وللأستاذ فراس السواح رأي ثقافي منقول ينطوي على اشارة جوهرية إلى أن الحالة التي عرفتها الجماعات والمختلفة وسط فضاء محاط بما يثير الخوف والقلق وعدم الاطمئنان وصعوبة توفير الاحتياجات الضرورية اليومية، اضطر أن ينزلق نحو الدين باعتباره الطاقة المقدسة التي توفر له ما يساعده على البقاء والصمود، ولاذ ايضا بالقوى الإلهية المفارقة لها، فعالة فيها، ولا بد أن يكون مظهراً مادياً لتلك الطاقات الالهية ونتاجاً لفعاليتها وقواها المستمرة. من هنا بدأت المرحلة الجديدة المتميزة بالقرب لتلك القوى وجذب لعطفها ومحاولة تفهم رغباتها وآلية فعلها وشروطه.
وللأسطورة دور حيوي في لحظة تشكل البدايات الأولى التي وجد فيها ضرورة ملحة لوجود الاسطورة، بوصفها تمظهراً لتخيلات العقل للأدوات المساعدة له على التكيف على الحياة، معتمداً على الاسطورة ومكونات الدين الأخرى، وهي معاً مساعدة مركزية على التعرف على الحياة وفهم ما فيها، كما أنها مساعدة ضرورية للجماعات وسيلة يعتمد عليها لاسترضاء القوى مثلما قال جيمس فريزر في الغصن الذهبي «دراسة في السحر والدين».
إنَّ الكشوف المهمة التي قدمها الفن، وهي من مآلاته ذات الوظيفة الدينية وقد أشار غادامير إلى أن خبرة الفن تسارق جنباً إلى جنب مع خبرته التاريخية، وهي تقدم لنا نماذج من الخبرة، بالحقيقة تتجاوز مناهج البحث العلمي وتنتمي إلى العلوم الإنسانية. 
وكل الآثار والمعطيات المعروفة للدين على الفن في حضارات الشرق والتي تسلمنا منها الكثير بوصفه شواهد كرّست مفهوم ثنائية العلاقة بين الفن والدين، الفن الذي صار عنصراً دالاً على الدين والاسطورة والطقوس والسحريات. إن الفن بما يمتلك من اشارات ورموز دالة على الالهة، مثلما كرستها معبودات لا تختفي مضمونات الرموز والاشارات فيها وكذلك وظائفها مع الاساطير، لأن حياتها بتبدياتها ذات الدلالة الحضورية القوية «لقد تعامل الانسان القديم مع الفن البدئي بوصف يتمتع بقدر كبير من الاهمية، وصار نشاطاً اجتماعياً يتمحور في العلاقات والبنى الذهنية المشتركة وارتباطها بقيمها التعبيرية الرمزية. إن إدراك العالم الخارجي يتغير وفقاً للمواقف الذاتية للإنسان بفعل توجهات الأفكار والعواطف التي ساعدت من خلال الفن تحقيق الاطمئنان النفسي لوجود الإنسان ازاء الظواهر المتعددة والتي جعلت من تعدديتها تعدد الالهة في الفكر القديم.