فن البوستر عبر التاريخ

ثقافة 2022/05/09
...

 سوزان كوردز
 ترجمة: مي اسماعيل
حتى في العصور القديمة أدرج التجار أسماء بضائعهم على ألواح لاستقطاب الزبائن. وبعد قرون عديدة استمر فن البوستر بتوجيه الرسائل واستقطاب الانتباه، لا يُخطئ أحد في تفسير الرسالة التي يوجهها بوستر أصدره الجيش الأميركي لحث الشباب على التطوع، يتضمن عبارة: «أريدك في الجيش الأميركي». يعود هذا البوستر الى سنة 1917، لتذكير الشباب بواجبهم تجاه الوطن خلال الحرب العالمية الأولى. من أعمال المصمم «جيمس مونتغومري فلاغ» (الذي يقال أنه صممه وفقا لملامح وجهه هو)؛ أعاد الجيش الأميركي إصداره خلال الحرب العالمية الثانية، وما زال يصدره حتى اليوم.
 
نال هذا الملصق شهرة عالمية؛ لذا لا غرابة أن يختاره متحف «فولكوانج» في إيسن/ غرب ألمانيا عنوانا لمعرض يتناول فن البوستر، مقدما تصاميم مستوحاة من الكرتون واللوحات الفنية والصور الفوتوغرافية التاريخية منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم، مع منظور مستقبلي. فالبوستر فن سيبقى دائما؛ كما يرى القيّم على المعرض «رينيه غروهنيرت»؛ حتى حينما يتخذ صيغة رقمية؛ قائلا: «الصورة تعادل ألف كلمة».
 
أصول الألواح الحجريَّة القديمة
كان سلف البوستر الحديث عبارة عن الألواح الحجريّة التي نقش عليها المصريون القدماء رموزهم. أما الرومان فقد علقوا ألواحا خشبيّة في الأماكن العمومية والميادين المزدحمة ليعرضوا عليها الإشعارات العامة. وفي القرون الوسطى باتت الألواح تُعلّق في الأسواق أو أمام الكنائس. لكن البوستر بصيغته الحديثة ظهر أواسط القرن الخامس عشر؛ متزامنا مع اختراع آلة الطباعة على يد «جوهانس غوتنبيرغ». وبحدود سنة 1796 اخترع الموسيقي والكاتب المسرحي البافاري «الويس سنفيلدر» تقنية الطباعة الحجرية «الليثوغراف-lithography“؛ فكانت تقنية حيوية لتصميم الملصقات الحديثة وسلفا لطباعة الأوفسيت الحديثة. استلهم سنفيلدر الفكرة في يوم ماطر؛ حينما لاحظ كيف ظهر إطار لورقة شجر على قطعة من الحجر الجيري. وسمحت العملية التي ابتكرها بإعادة إنتاج تصميم مرسوم على لوح حجري ليتم نقله على الورق. ومن تلك النقطة مكّن اختراع سنفيلدر من إعادة إنتاج الملصقات على نطاق واسع لكل شيء؛ من الترويج للأحداث العامة إلى السياسة.
 
فنانو ملصقات تحت الطلب
جميع الملصقات كانت تدار في البداية بواسطة مسؤولي الطباعة والليثوغراف الحجري، ولكن حينما لم يعد باستطاعة هؤلاء الايفاء بالطلب النوعي المتزايد للزبائن؛ قاد ذلك لزيادة أعداد الفنانين الذين جرى توظيفهم لتصميم البوسترات أيضا. أصبح الفنان الفرنسي „جول شيريه“ يُعرف بأنه والد الملصق الحديث، وقد أسس مشغله الخاص لطباعة الليثوغراف سنة 1866، وصمم نحو 1200 بوستر في أربعين سنة. أما الفنان „هنري دي تولوز لوتريك“ فقد كان عمله يوازي „شيريه“ شهرة وانتشارا؛ إذ كتب تاريخ الملصقات بأعماله الفنية التي صورت العروض المتنوعة الباريسية الشهيرة في ملهى الطاحونة الحمراء „مولان روج- Moulin Rouge“، إذ قضى كل أمسية تقريبا يلتقط طاقة الحياة الليلية المبهرجة من مسارح مونمارتر في رسوماته. 
أصبح نمط الفن الجديد „Art Nouveau“ منتشرا في ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر تقريبا، وكان واحد من أشهر الملصقات في تلك الحقبة بوستر صممه „ألفونس موتشا -Alfons Mucha“ لمسرحية „جيسموندا“ التي كانت بطلتها الممثلة الشهيرة عالميا حينها „سارة برنار“. حتى أن جميع نسخ ملصقات الدعاية العمومية للمسرحية تعرضت للسرقة من قبل عشاق الفن.
 
البوستر وسيلة للإعلان
لا تزال الملصقات ذات التصاميم المتقنة للفنانين تُصمم اليوم للمتاحف والمسارح؛ لكن تركيز البوستر تحول منذ عشرينات القرن الماضي الى الإعلان؛ حيث حلّت العلامة التجارية وشكل المُنتَج محل الزخرفة الفخمة؛ كما يُعلّق غروهنيرت. واصل البوستر تحولاته خلال القرن العشرين، وتأثر الإعلان فيه بتحولات الحركات الفنية في حقباتها المتنوعة؛ من طراز حركة „البوهاوس- Bauhaus“ الى الفن الزخرفي „آرت ديكو-Art Deco“. في سنة 1919 أصبح „والتر غروبيوس“ مديرا لمؤسسة جديدة هي „الباوهاوس“، التي اندمجت مع  مدرسة „الدوقية الكبيرة“ السابقة للفنون والحرف وأكاديمية „فايمر- Weimar“ للفنون الجميلة. ورغم أن غروبيوس كان معماريا وكان مصطلح البوهاوس يعني حرفيا „دار التعمير“؛ لكن مدرسة التصميم تلك لم تضم قسما للعمارة حتى سنة 1927، وكان تركيزها على نواحي أخرى للتصميم.  
تلاعبت بعض تصاميم البوستر خلال حقبة الستينات على استخدام أنماط زخرفية ذات إيحاءات „مخدرة“من منظور „الثقافة المضادة“، بينما أصبحت التصاميم حتى أكثر „استفزازا“ في ثمانينيات القرن الماضي؛ إذ أعلنت عن مرضى الإيدز. لكن البوستر لم يجرِ تصميمه ليُعلن عن البضائع فقط؛ بل لإيصال الرسائل السياسية أيضا.. استخدم النازيون البوستر لأغراض الدعاية السياسية (البروباغاندا)، وكذلك فعلت الأنظمة الشيوعية في المعسكر الشرقي. علّق شباب الستينات (والأجيال التالية) ملصقات الثائر „جيفارا“ على جدرانهم، وتحدثت بوسترات شهيرة أخرى ضد الأسلحة النووية وحرب فيتنام والتلوث والاكتظاظ السكاني. ما لبثت وسائل الإعلام الجماهيرية واسعة الانتشار أن غيرت بالكامل المقاربة العامة للإعلان؛ وأدخل التلفزيون إعلانات المنتجات التجارية الى غرف المعيشة المنزلية. 
لكن البوستر بقي موجودا رغم كل شيء؛ كما يقول غروهنيرت: „عندها كان توفير المعلومات (عن موضوع ما) أقل منه أهمية من تذكير الناس بشيء سبق لهم رؤيته بالفعل“. ما زال بالإمكان رؤية البوستر على أعمدة الإعلان „advertising pillars“؛ وهي وسيلة جرى ابتكارها سنة 1854؛ رغم انها مرت بالتغيير والتحديث، وباتت اليوم تعرض ملصقاتها من البوستر المُضاء من الخلف. يرى غروهنيرت ان المستقبل يبدو مختلفا: „أصبح البوستر مندمجا ضمن مفهوم شامل..“، والبوستر المعروض اليوم في موقف قطارات يمكن أن يرتبط بمعلومات مفيدة أو يكون جزءًا من أثاث الشارع.. ورغم العصر الرقمي لن يكون البوستر بالبضاعة القديمة أبداً.. 
موقع «دويتشي فيللا» الألماني