في جماليَّات الإعداد والتعريق

ثقافة 2022/05/11
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب
 
تنطوي آليَّة الإعداد والتعريق في المسرح العراقي المعاصر على خصوصية فكرية وجمالية في التعاطي مع النصوص المسرحية الأجنبية وبالتحديد مع النصوص الشعبية للشاعر الالماني (برتولد بريشت) التي وجدت لها صدى واسعاً في نفوس مسرحيينا لديناميكيتها وحركيتها وفلسفتها المادية التي ناقشت الصراع الطبقي ونقدها للبرجوازية الصاعدة في المجتمعات الغربية ونقدها للحرب ولتوافر الحكمة الشعبية وبلاغتها ووضوحها، لأن فكر بريشت يخاطب البروليتاريا، ولأبد من وضوحه مع الجماهير فعرَّق الشاعر صادق الصائغ مسرحية (بونتيلا وتابعه ماتي) بعنوان جديد (البيك والسايق) 1973، وقدم عادل كاظم معرّقاً مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) قراءة جديدة للنص البريشتي حملت عنواناً محلياً (دائرة الفحم البغدادية) 1976، وعمل الكاتب الراحل فاروق محمد على إعداد وتعريق نابه وذكي ومحيط بنظرية المسرح الملحمي لمسرحية الإنسان الطيب في ستزوان وبعنوان (الانسان الطيب) 1985، حين أسقط في عنونته الجديدة المدينة الصينية (ستزوان) التي جرت فيها أحداث المسرحية البريشتية واستبدلها بمدينة عراقية والكاتب فاروق محمد (1946ـ 2021) مسرحي يساري عراقي عمل في فرقة المسرح الشعبي وشكل ثنائيا مسرحياً ناجحاً مع المخرج عوني كرومي في عروض (كشخة ونفخة) و(ترنيمة الكرسي الهزاز) و (الإنسان الطيب) و(الغائب) وألف عديد النصوص المسرحية تأليفاً خالصاً خالياً من التناصات والتعالقات كـ (بيت وخمس بيبان) و(التتار) و(حقل الأحلام) و(الشاهد) وغيرها، عمل فاروق محمد مشرطه في مسرحية (الإنسان الطيب) بتغييره العديد من المشاهد وقام بالتدخل العضوي بما يتطابق مع الوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية لعراق العام 1985 والأخذ بنظر الاعتبار مجموعة (التابوات) والمحاذير التي لا يمكن التطرق لها في ظل النظام الشمولي السابق، حيث كانت الحرب العراقية الايرانية في أوجها والمشكلات والعلل الاجتماعية والنفسية تعصف بالبلاد والترهلات والانكسارات العديدة التي حلت في جسد المجتمع بسبب الحرب، اضافة لتردي أحوال المسرح العراقي آنذاك بدخول ما يعرف بالمسرح التجاري (الاستهلاكي) بتوجيه مباشر من الآلة الإعلامية للنظام الشمولي لأغراض الترفيه وشغل وقت الجنود العائدين من الجبهة بموضوعات حسية وكوميدية مسفة لتخرجهم خارج ايقاع الحرب وتجعلهم مغيبين ذهنياً ومخدرين عن طرح الأسئلة الوجودية والوقائعية اليومية الملحة، وإلغاء تفعيل الجوانب العقلية كي لا تسهم في إنتاج أسئلة تقع في حيز المسكوت عنه والفضائحي الفاقع، حذف فاروق محمد بعض المشاهد في المسرحية البريشتية لاعتبارات اجتماعية وأخلاقية لا تتطابق مع النسق الاجتماعي للمجتمع العراقي منها مشهد (الماء في بستان المدينة) الذي يحتوي مشهد عراك مجموعة من المومسات على أحد الزبائن ومعهن (شن تي) تلك الفتاة العاهر سيئة الحظ ليخفف المعد من توصيف (المومس) وانخراطها في حياة العهر على الرغم من أن هذا المشهد يعزز من القيمة التغريبية للشخصية التي أرادها بريشت في نصه في حين نجد هذه القيمة ماثلة في المشهد الذي تساعد فيه (شن تي-المومس) مجموعة الآلهة النازلين في (ستزوان) طلباً للمأوى والطعام عندما تغلق جميع البيوت أبوابها بوجههم، وحول فاروق محمد في إعداده مهنة الطيار (سون) في النص الأصل إلى سائق يبحث عن المال لشراء سيارة يعمل بها في العاصمة، ومغادرة المعد/ المعرّق لمعنى وحلم الطيران ليس لأسباب اجتماعية هذه المرة، وإنما لأسباب سياسية واضحة إذ كانت البلاد تمر بسنوات الحرب العراقية الإيرانية ويجب الحذر من الإشارة المباشرة لاي عنوان يرتبط بهذه الحرب وإضافة لأحلام (سون) بالسفر خارج (ستزوان) في النص الأصل لا تتطابق مع الرؤية السياسية للنظام الشمولي المباد آنذاك، حين أغلق جميع المطارات والأجواء بوجه المدنيين العراقيين أثناء الحرب إلى أجل غير مسمى، وغير (المعرق) شخصية صاحبة البيت، وهي نفسها صاحبة الدكان إلى التاجر الرجل (صاحب المظلة) وتم تغيير الشخصية إلى رجل بسبب قوة تأثير سلطة الرجل الأدائية وسطوتها على الفتاة (شن تي) فلو كانت الشخصية امرأة لقل تأثير الأداء في تجسيد شخصية الرأسمالي الصاعد، واختصر فاروق محمد مشهد حفلة الزفاف التي يعقد فيها قران (شن تي) على (سون) السائق، وأعطى دوراً أكبر لشخصية البواب أو (الراهب البوذي) وحذف كل ما يتعلق بالشراب والسكر وتعتعته في النص الأصلي الذي أراده (بريشت) لتأكيد الجانب الاحتفالي البهيج الذي لم تنل منه (شن تي) أي قسط من الفرح في المستقبل وتم حذف مشاهد السكر لأسباب اجتماعية ضاغطة ولطول المشهد وبقائه في رقعة زمكانية واحدة، وفعَل المعرق من دور الساقي (يانغ) حيث كان في الأصل البريشتي يدخل في أربع مشاهد فقط، أخذت شخصية الساقي الآن مساحة جيدة في نص العرض ودخل في جميع الفواصل المونتاجية بين المشاهد، وكأنه شخصية السقا البغدادي المعروف الذي يروي عطش البيوت وساكنيها، وقدم القيمة السردية للراوي البريشتي اضافة للقيم العقلية في كسره المستمر للايهام وطرحه الأسئلة المباشرة للمتلقي ومداخلاته الكوميدية الساخرة ومباشرته للعرض في حال تغيير المشاهد، ليصبح النص البريشتي نصا عراقيا بامتياز بقراءته الجديدة المعاصرة.