التاريخ الوحشي للجسد

ثقافة 2022/05/11
...

  وارد بدر السالم
 
  وارد بدر السالم
 
استنتاجات مغايرة، لمفهوم الجسد المعتَرَض عليه، فلسفياً أو جمالياً. أو خلاصات جمالية تستنجد بالجسد، بوصفه عقلاً آخر، يسير إلى غاياته، على أساس هذه العقلنة المفترضة، بعيداً عن بديهيات العقل والروح والنفس التي ناظر بها فلاسفة كبار. ففي الوعي القيمي، وعندما كان الإنسان البدائي (محكوماً بعلاقة حسيَّة مع الطبيعة) وأنه كائن محكوم (بعبودية حسه) بسبب أن وعيه لظواهر الطبيعة لم يكن ناضجاً، ولم تكن نواظمه العقلية والإدراكية، كافية لتشكيل المعاني المباشرة لتلك الظواهر. حتى وضع العقل مدركاته اليقينية والأخلاقية، للخروج من فطرة الإنسان إلى عقلانيته ويقينياته التي شكلتها الفلسفات الأخلاقية والدينية وعلى النحو المعروف. حتى تطور اللغة ونشوء الخطاب الأسطوري الذي نظّمه الجسد (الرغبة في الطعام والجنس) كثنائية فطرية جُبِل عليها الإنسان، منذ خلقه حتى اليوم. وما تزال هذه الرغبة تمثل له، حاجة شخصية لا غنى عنها، مهما تقدمت الحياة العلمية في ترسيم حدود البيولوجيا واختصارها الافتراضي. ومثل تلك الأساطير التي أنشأتها (أزمة الجسد) كثقافة اجتماعية فطرية، تسبب بها الإنسان الأول، لأنه كان خارج نظامه الروحي والجسدي معاً، ولم يكن الدين البدائي حافزاً له، لتنميط علاقته الجسدية والروحية، عكس الإنسان الأوروبي في القرون الوسطى الذي كان (حراً في تفكيره، نظراً لتشبعه بتعاليم الدين، مع أن جسده ظل (رهين الآلة) الصناعية. إلا أن الجسد البشري أخذ مدياته الشخصية والجماعية في العلاقات الاجتماعية اليومية.
ومع تطورات الرؤية إلى الجسد، لا بوصفه آلة تشغيل كما يصفها البعض، بل كيان قائم بذاته لذاته. تطورت أساليب الجسد أيضاً ما بعد القرون الوسطى. حتى (عبادة الجسد) التي مارسها الإنسان البدائي بوصفها الصوري المجرد، لم تعد كافية لتعطي الجسد مقداره الطبيعي وقابليته، فالثقافة الروحية من المؤكد أنها نشأت مع الأديان الكبرى، التي قننتها واستحوذت عليها في نتيجة الأمر. وحتى لو عاينّا اللغة بوصفها الثقافي الشعبي في الأقل، فسنجد علاقتها التطورية متشكلة مع الزمن والمكان، بوصفهما حالتين لا تتراجعان، وأن إسباغ اللغة على الجسد، كونه جسداً لغوياً أمر يحتاج الى مباحثة مع مجموعة من الأنساق البحثية في أبنية اللغة ذاتها. ومقدار تطورها الزمني. ومن ثم دلالاتها وتأويلاتها. 
وإذا كانت اللغة (جملة رموز دائرية مغلقة) و(الجسد أشبه باللغة والدائرة) فإن هذا التوصيف لا يتناسب مع فكرة اللغة والجسد معاً. فالدائرة الجسدية، ربما هي كشف عناصر الجسد وأهميتها وواجباتها الضمنية في المنظور الجسدي، وحتى لو كانت اللغة مشروطة بالرموز الدالّة والغامضة منها، فإنها تشكّل لوناً من الخطاب الاجتماعي المتعارف عليه، ليس بالضرورة أن تتشابه مع (الجسد) بوصفه كياناً مغلقاً، فاللغة كيان متناسل من الأدلة والرموز والدلالات، وكل الوصف المقعّر الذي جاء به الباحث، لا معنى لها في معالجة موضوعة الجسد عموماً. لذلك سنتخطى ما هو عرفاني وروحاني، لأنه مكرر في كثير من الدراسات النوعية والعامة لهكذا قضية فكرية وفلسفية.
 
المرأة والجسد
تدمر المرأة جسدها (على حساب المعنى) وتضحي به. والمعنى المُستشَف، قد يكون نشأ مع الأسطورة وبدايات اللغة وأخلاقيات الغريزة البشرية الفطرية (فأنثى الأسد تصطاد فرائسها لتأكلها ذكورها) ومن طبيعة المرأة (أنها تذكي أوار النشوة الذكورية وتشبّبها) ومع كل الإنشائيات الواصفة للجسد الأنثوي كونه انفجاراً جمالياً، بحسب الباحث، فإنَّ اللغات التعبيرية المتعددة في العالم، وحركتها الموسيقية التي يقف عندها، باعتبارها لغة إيحائية وتعبيرية، هي الوسيط الجمالي لحركة الجسد وأهميته وبقائه الأسطوري المتطور مع حركة الزمن. والموسيقى بوصفها لغة عالمية، تستطيع أن تخلق من الجسد عنفواناً وحركية وأكثر جمالاً، على أنه ثقافة مجتمعية عامة. وبما أن الجسد (خطاب معرفي) و (دال ثقافي) و(مرتسم جمالي) عليه أن يخضع إلى (تحليل) أو (تفكيك) لوحاته النسقية المعرفية الناظمة للبناء النصي. ونعتقد أن إقحام النظرية النقدية الأدبية على نسق اجتماعي، ليست له علاقة بالأدب. فإقحام المناهج النقدية الأدبية، لن يرفع من شأن الموضوع، بل يعطيه أهمية ثانوية. إذ إنّ معطيات العلوم الاجتماعية والبيولوجية والفكرية والفلسفية، هي الأقرب إلى معالجة ومعاينة الجسد من مختلف زواياه. لا سيما في الزمن السابق الذي لم يشهد نظريات متسارعة كما نجده اليوم. حتى لو ضبطنا إيقاع الموضوع على الناظم الأدبي، فإنه يشذ كثيراً عنه. والنظريات الأدبية هي ذاتها عرضة للتجديد والتحديث وما بعدهما. وأن «التفلسف» الأدبي لن يعطي ثماره الجيدة، لأنه مُقحم وناشز جداً، خاصة وأن الكتاب برمته ليس أدبياً، ولا يحتاج إلى النظرية الأدبية، بقدر حاجته الى معالجات تاريخية واجتماعية على الدقة الرامية لتوصيف ثقافته من الجهات كلها. عبر التشريح والتأمل ورؤية أسراره الكبيرة. وأحيانا لا نجد حتى ضرورة كبيرة لزج الفلسفة في هذا الحقل المتسع والمتجدد، لاسيما أن الزمن الفلسفي انتهى برحيل رواده ومؤسسيه ومناظريه، ولم يبق غير التنظير التاريخي المؤسَّس لتحولات الجسد الكبيرة، مع العصور التي حالت من دون أن تظهر أهميته، بسبب سلطة العقل الكلية، التي رافقتها الأديان وإيقاعاتها الضابطة والصارمة.
 
 الرقص
يصف البعض بأن الرقص، هو مجموعة فنون تداخلت ببعضها، فأنتجت حركة الجسد الإيقاعية، ومن بقعة مكانية إلى أخرى، يختلف الجسد الراقص وتتنوع إيقاعاته الشكلية والجوهرية. ويرى الباحث بأن أول تعبير راقص في اللغة البدائية هو (تقليد حركة الفرائس لاصطيادها) وربما هذا صحيح، بناءً على معطيات التاريخ الوحشي الذي بدأه الإنسان آنذاك، علاقته بالطبيعة والسماء والإله البعيد. فصار الرقص طقساً دينياً على الأغلب الأعم أو الأمر في دراما اللغة الجسدية، كونه رقصاً تعبيرياً، ينسجم مع واقع الجماعة وخيالهم الفضفاض. 
ومن ثم فإن الجسد يكوّن له ذاكرة مشهدية، تنمو مع الوقت، لتجسد له أكثر من خيال في واقعة حضوره الإنساني. وهذا التدرج، البطيء أو السريع، هو الذي يؤسس لثقافة الجسد، سواء كان الجسد ذكورياً أم أنثوياً. ومع هذا الارتباط الطقسي- الديني في الغالب، تحرر الجسد من هيمنة البقاء في أجواء الطبيعة، إلى ما هو - خيالي، وكان إيذاناً لتحرير الجنسانية أيضاً، فالجسد الكهنوتي ذو الروابط الدينية، وصولاً الى تفعيل العاطفة الإنسانية بشكلها الإيروتيكي، مع الحب الذي هو (ظاهرة نفسية أكثر منها عضوية) وصولاً الى العبادة القضيبية، وتجاوزها إلى عبادة الجهاز التناسلي الأنثوي، لهذا يقال إن أول إله عُبد هو (جسد المرأة) لنجد الكثير من الميثيولوجيا القديمة، أن مثل هذه العبادات كانت قائمة. لارتباطها بالإله، وليس لأحد الحق في اختراق عذرية المرأة (إلا كهنة المعابد الذي يمثلون الإرادة الإلهية).
الكتاب: الوعي الجسدي – الإشارات الجمالية في طقوس الخلاص الجسدي- منير الحافظ – دار نشر محاكاة – دمشق – 2012.