فارس الرسم العراقي

ثقافة 2022/05/11
...

ستار كاووش

حين يمسك عامر العبيدي فرشاة الرسم، فلا يمكننا سوى انتظار نافذة تعيدنا إلى سحر الرسم الحقيقي من ناحية التكوينات والمعالجات والرؤية والخيال، حيث استلهمَ هذا الفنان الروح العراقية وما تحمله من جمالٍ وآمال وحتى محن، وحَلَّقَ بأجنحة إبداعه، صحبة لوحاته وما ابتكرته مخيلته الرافدينية. نتأمل لوحات عامر العبيدي فنشعر كأننا نعيش بداخلها ونصبح جزءاً من المشهد الذي يرسمه، وذلك بسبب الجاذبية والأناقة في إخراجها وتوازن تكويناتها، كذلك الدراية والخبرة في معالجة التونات والتناغمات والعلاقات بين تقاطعات الخطوط وتناسب المساحات، لتكون النتيجة لوحاتٍ تَمس القلب وتُمَتِّعُ العين، وتستقر في الذاكرة إلى الأبد. ونتأكد في النهاية، من أنَّ هذه اللوحات لا تُشير إلى الجمال فقط، بل إنَّ الجمال ذاته يغفو بين ثناياها ويتآلف معها، كما يتآلف الفرسان الذين يرسمهم مع الخيول التي تطارد الريح والذكريات والأماكن التي صارت بعيدة.
في مسيرته الطويلة، أنجز عامر العبيدي لوحاتٍ في طليعة الحداثة العراقية، التي تنطلق من محلية عالية المستوى نحو عالمية مفتوحة الأفق، لوحات جعلتنا نستعيد معها الفن التشكيلي العراقي بكل عافيته وحضوره وتأثيره وجماله، من حيث التقنية، الموضوعات، المعالجات والأسلوب الشخصي، فنرى كيفَ رسمَ خيوله بطريقة تعبيرية فريدة ومختزلة، تحمل ملامح مدرسة عراقية مؤثرة، هذه الخيول التي مازالت تركض فوق قماشات لوحاته، بعيداً عن مرسمه الذي ودعه في بغداد، وما زال صهيلها يُسابق ريح غربته وابتعاده عن الوطن. وقد أضافَ العبيدي للوحاته الكثير من الوحدات الزخرفية الشرقية وبعض التفاصيل، التي تتلاءم مع الفرسان وحركة الخيول وإيماءات رؤوسها، وقد رسمَ كل ذلك بعين صافية تبحث عن الجمال حتى في الأماكن الأكثر وحشة، وبيدٍ مرهفة تقود موهبته الفَذَّة نحو إسلوبٍ نادرٍ في الرسم.
امتزجت التعبيريَّة والرمزيَّة في أعمال عامر العبيدي، من خلال مئات اللوحات التي رسمها حول وحدة الانسان واغترابه وعزلته، حيث صَوَّرَ لنا أشخاصاً وحيدين، يجلسون في أماكن متآكلة ومهجورة، بانتْ عليها بصمات الزمن، يتكئُون شاردي الذهن على حطام كراسٍ، ويحيط بهم فضاء يتماهى مع الأفق ليمنحهم الكثير من الوحدة والعزلة والغياب.
في غربته قَدَّمَ عامر العبيدي مجموعة من المعارض الجميلة، وصارت لوحاته أكثر رمزية، فجعلَ ملامح الوجوه تتداخل مع تفاصيل الخيول والطيور وتلويحات الأيدي، ووضعَ كل ذلك تحت شموس ترتفع في فضاءات اللوحات، بينما غطى ببقع الضوء الأزرق انفعالات الفرسان وصراخهم المكتوم. وفي لوحات أخرى تطل علينا نساء وحيدات ما زلن يأخذن أماكنهن على مقاعد قديمة في زوايا نائية، بانتظار قدوم ساعي بريدٍ يجلب لهن شيئاً من الطمأنينة والسلام، أو يوصل لهن تلويحة من الوطن. وهنا يؤكد عامر العبيدي من جديد العزلة التي شكلت موضوعاً أثيراً له.
الانتباهة الحقيقية التي يجب أن نضع أيدينا عليها ونحن نتحدث عن لوحات عامر العبيدي، هي أن هذا الفنان، رغمَ رسمه للإنسان في حالة استكانة وتقهقر وغربة، لكن لوحته لا تتقهقر، بل ازدادت قوة وصارت أشد تعبيراً وأكثر انغماساً بالإبداع الذي ينبثق مثل زهرة في أرض يباب. نعم هذه هي المفارقة الجمالية التي علينا التوقف عندها كثيراً. وحين أُردِّدُ دائماً، بأن هذا الفنان يتكئ على إبداعه حقاً، فأنا أعني ما أقول، بعدَ أن رأيتُ لوحاته وهي تُعيد لنا قوة الرسم بجمال إبداعها وتكامل صنعتها وقوة أدائها. عامر العبيدي يرسم غربة الإنسان، لكن اللوحة هي وطنه وهي بيته وهي الملاذ الآمن لفرشاته العظيمة.