رجل من ساتان لصهيب أيّوب: خارطة الجسد الحُرّة‎‎

ثقافة 2022/05/14
...

 نبيل مملوك
 
ينطلق صهيب أيّوب في باكورة أعماله الروائيّة "رجل من ساتان" الصادرة عن دار هاشيت أنطوان (نوفل- طبعة أولى 2019) من المكان والجسد ليكتب نصًّا واقعيًّا يحيّكه من الذاكرة اللبنانية وصولاً الى الاضطهاد الجندري بحق المثليين، النص المكون من 110 صفحات لم يكن إلا مشهدًا لرواية عاديّة تغنيها الإشارات الزمكانيّة ويخلق الجسد منعطفها اللافت.
 
المكان والإشارة الزمانيّة
تبدأ الرواية بجثة توثّق موتها، أو بالأحرى بحوار يدور بين الجثة المقتولة وغاسلها وقد تعمّد أيّوب ربّما أو انجرف إلى لا وعيه لتكون البداية منبرًا اضطهاديًا يمهّد لشخصيّة مختلفة "يرمقني بعينين حادّتين. يتفحّص وجهي الباهت. يبصق عليَّ. لم أرغب حينها في شيء رغم إذلالي.. أليس هناك من يتفقّد الموتى؟ ص.9". وقد انتقل أيوب من الاسترجاع الأصغر حيث وصف شقّته الباريسية إلى الاسترجاع الأكبر حيث وصف المكان الذي نشأ فيه نبيل الشخصية الأساس المختلفة الناتجة عن علاقة غير شرعيّة جمعت افتراضًا بين خالد أكومة والمطربة اليهوديَّة ناهد، ليتبين بعدها أن خالد ليس والد نبيل.. نشأة نبيل في الشمال في بيئة شعبية دفعت أيوب إلى التركيز على المكان واستخدام الوصف كأداة حادّة تقتلع النوستالجيا التي يحملها الكاتب في دواخله لطرابلس مدينته، فبدأ بوصف اليوميات الطرابلسية بحذافيرها مما جعلنا أمام مرآة لتلقٍ ايجابي للفضاء المكاني، وذلك من خلال توثيق العديد من الأحداث "مقتل صياد سمك قرب ضفاف نهر الشمالي الكبير ص.13"، "يقدم له مزارعون من القرى المجاورة، صناديق الذرة ومشمش أم حسين وتفاح غولدن.. تربطه علاقة وطيدة بخادم كنيسة السيدة.. ص16"، وقد اقتصر الوصف على تقديم دلالات مكثفة عن عادات وأحداث وخيرات وسلوكيات موجودة في هذه البيئة التي تلتف حول خاصرة الأحداث الروائية، أمّا الزمان فكان أيوب قد استخدمه كإشارات معدودة ومحدود تساعد على وضع المتلقي على سكة الزمن الروائي".. وأسقطت عنه التهمة عام 1945 ص.11" للدلالة على منبتة القصة، ومن ثم إشارة أخرى للدلالة على نهايتها "1984 أبوة كنجو.. ص.87".  إذن الفضاء الروائي كان متكئا على المكان أكثر من الزمان وهذا ما يدل على نوستالجيا مضمرة لدى الكاتب لبيئته أو ربما جرح عاطفي نتيجة مغادرة هذا المكان، رغم الإشارات الزمانية المغلفة بالفن والثقافة والحدث السياسي والتي تقدم لنا صورة عن مخزون الكاتب الثقافي والفكري إلا أن المكان كان طاغياً بوصف أدق العادات والأحداث.
 
الجسد وخارطته
للوهلة الأولى يشعر المتلقي أن الكاتب يفرض علينا بشكل فظ وغليظ فكرة المثليّة "ص. 9" إلا أننا سرعان ما ننخدع بهذا التصور الافتراضي العجول كلما تقدمنا في صفحات الرواية، فأيوب كان بإمكانه أن يقدم لنا نصّا ترويجيّا للمثلية ويظهر المثليّ على أنه ضحية لا حول لها ولا قوة، لكنه استعان بدلاً من ذلك بالحبكة التي بنت الخريطة الجسدية لنبيل ضحية - مغامرات خالد أكومة المشاكس في ميادين الحرب والسياسة- ومن ثم الناجي بفعل تصالحه مع جسده "الرقص وحده سينتقم لأمي ص.76"، وقد رسمت هذه الخريطة بدءًا من الطفولة المجبولة بالـ daddy issues أو المشكلات الأبوية التي تنقسم إلى قسمين: القسم الأبويّ التقليدي المتمثل بعلاقة الأب بابنه أي علاقة خالد بنبيل والتي لم تكن سوى مبنى لمضطهد ومظلوم، لجارح ومجروح، لمذنب ومجني عليه "وفي يوم لاحق دخل أبي برفقة زوجته ونحن نرقص، فنهرني بصوتٍ عالٍ، ثم أمسكني من رقبتي وضغط عليها بقسوة. ص35"، الذي ولد كراهية صريحة لدى نبيل "كرهتُ أبي، ازداد كرهي له حين أنجبت سعاد صبيّا ص.35"، أي أنّ مبنى الجسد كان مجبولاً بالكراهية والثورة والانتقام، الانتقام من خلال الفن والرقص وتلبيس "الرجولة" فستانًا، وهذا ما يحيلنا إلى القسم الثاني من المشكلات الأبوية وهو العلاقة مع الأنا الأعلى أو المجتمع والتي كانت مقتصرة على منع نبيل ونهيه وكفّه عن أمور جمّة تمس العرف والتقليد "قالت لي: أنت رجال مطرحك مع الرجال 35"، "رغم أن جسد نبيل فيما بعد سيغدو جسدًا فدائيًا، علمني مصطفى حمل السلاح. خضعت لدورة تدريبية في جبل تربل. ص.53"، وقد رافق هذا الجسد لغة مهنيّة تدل وتشير إلى مدى قدرة الشخصية على تصالحها مع نفسها وتكوينها الهرموني وهو توجه نبيل باختيار أبيه إلى مهنة الخياطة وهي مشكلة تحمل في حدها الثاني متنفسًا لنبيل الذي بات خياطًا ماهرًا يتمتع بذائقة فنية "تحولت الغرفة إلى مكاني الأثير، أمضي فيه وقتًا مع نفسي، أفرد فيها خيالاتي كلها بعيدًا عن عيونهم. ص.60"، "صرتُ أخيّط على ماكينة المتجر فساتين لي مما يبقى من قماش (ص.60). ليصل هذا الجسد الى ذروة حريته بعلاقات مثلية مع أشخاص تتكلم بنفس لغته الجنسية فتتضح فكرة المثلية التي يعتنقها نبيل الذي ينتهي به المطاف إلى السقوط الحر نحو الموت الحرية المطلقة، "وبعدما شرّحوا جثتي لم يجدوا أي شيء عالقًا فيها، لا ذكرياتي ولا طفولتي.. ص.109". 
 
البداية والنهاية المقلقة
كما أسلفنا فإن الرواية تبدأ بالموت، وبشكل أدق موت نبيل والمونولوج ومن ثم dialogue مقتضب بين غاسل الموتى والشخصية الأساس، البداية التي مهّدت للعودة إلى الوراء وبسط أحداث الرواية كانت النهاية المقلقة مغايرة لها، إذ وضع الكاتب ثقل رسالته في النهاية، حيث تصوير الموت على أنه قاتم وقبيح لشخصية مختلفة لم تطلب سوى الحريّة وحق الاختلاف الجندري، "تُركتُ وحيدًا برفقة جثث أخرى وتحت تراب بشع رائحته زنخة. ص.109"، ليستفيض أيّوب برده على قسوة المجتمع بتصوير شناعته بشكل كلاسيكي أسريّ "أولادي لم ينبتوا شاهدًا ولم يضعوا اسمي وما الهم.. ص.109"، في إشارة إلى أن نبيل كان قد انجرف إلى الزواج بحكم التقاليد وعجزه عن الإفصاح عن اختلافه الجندريّ، وهو تقاطع مع ما ورد في كتاب حازم صاغية مذكرات رندة الترانس (دار الساقي طبعة أولى 2010).  
لكن المفارقة أن أيوب ركز على الاضطهاد بينما صاغية دفع برندة إلى التمرّد العام الواضح الذي كلفها النفي والانسلاخ عن المجتمع لا الموت.. ولعل القلق يكمن في نهاية نص أيوب في السطور الأخيرة "بعد ساعات من دفني جلس شاب على قبري. أزال التراب.. أخرجني، فطافت رغبتي عالية كأشجار غابة يانعة ص.110"، هذه الحريّة المترجمة بعد الموت هل ستولّد اضطهادًا آخر؟ هل ستكون مفصلاً لباب حرّ؟ أم هي خيال يبحث عن أشجار يتنفس فيها حق الاختلاف رغم التخلي المجتمعي؟
النص يقصد به الكاتب أن يكون الآخر مختلفًا بصرف النظر عن بيئته، أن يبني من جسده برجًا لروح تعتقد بما يشبهها، ولعلّ ميول الكاتب الجندريّة قد ساعدته في بناء خارطة جسديّة حرّة.. من الساتان الاستثنائي الخالص المجبول بالدم الملطخ على أنامل مجتمعنا.