أليكسي مكسيم غوركي.. القَداسةُ والاحْتِجاج

ثقافة 2022/05/14
...

 عصام كاظم جري 
 
أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف، لُقب بمكسيم غوركي، هو واحد من أهم أدباء القرن العشرين، ومؤسس المدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة التي أصبحت المذهب الرسميّ للاتحاد السوفيتيّ في الأدب والفن، ورُشّح مكسيم غوركي لنيل "جائزة نوبل" في الأدب لخمس مرات. إذ كان يحظى بأسلوب قصصيّ أسهم في صقل وبلورة تجربته، ظهر ذلك واضحا وجليا في كتاباته، وقد أُطلق على المدينة التي ولد فيها مكسيم باسم "غوركي"  لأكثر من ستة عقود. 
ولا بدَّ من السؤال الآتي لماذا "مكسيم غوركي"؟.. تأتي كلمة "غوركي" في اللغة الروسيّة بمعنى المرَّارة أو الشيء المرَّ، وحتما استوحى هذا اللقب من الواقع المرير الذي كان يعاني منه الناس في روسيا تحت حكم القياصرة، وقد شاهد مكسيم غوركي معاناة الناس بأمَّ عينه خلال أسفاره الطّويلة أثناء بحثه عن جدوى الحياة، يرى مكسيم غوركي أن القراءة عند البعض وسيلة للبذخ والتّسلية والتّلهية لاسيما عند القارئ المُتكاسل والعاجر عن التّفكير والتّأويل، ويرى في هذا القارئ سكونا غير مجدِ أمام الحراك الفكريّ والمعرفيّ، هؤلاء القرَّاء يستسلمون لطاعة الجمود والتّكاسل والتّثاقل والتّراخي والفُتور بعيدا عن التأمل والمراجعة والمعاينة والاكتشاف، ويحثُّ مكسيم غوركي الإنسان على وجوب معرفة كلِّ شيء وأن لم يصل إلى أي شيء، أو لم يصل إلى ذلك الشيء بالمجمل، إذ عليه البحث وأن لم يستطع التّغلب على تكاسله وتثاقله وجموده وطاعته وتقاعسه، ومن المؤكد أن هذا الحكم ما هو إلا احْتِجاج ضد القارئ الذي يقع في هذه الخانة. وقد وصل به الاحتجاج إلى مسرح موسكو حين قدَّم مسرحية (الممسوسون) للكاتب العظيم دوستويفسكي وهي تطرح المخاوف من التّغيير الاجتماعيّ ، وترويجها للجريمة وقناعة الآخرين  بجدواها. 
واحتجاجات مكسيم غوركي مليئة بالمواقف الكثيرة النابعة من قلب الحياة وأوجاعها، كانت تلك التجارب كفيلة بإنتاج مرويات وكتابات عظيمة منها "الأم، والأشرار، والسّاقطون، والحضيض" وغيرها.. ففي رواية: (الأم) جسَّد دور الفئة العُمّالية الثوريّة وكتب الظروف المختلفة للثورة البلشفية، كاشفا الوعي الحقيقي عند الشّخصيات العُمّالية المهمَّشة، وجعل من أحداث الرواية احتجاجا مُتطوّرا.
أما رواياته القصيرة في كتاب: (السّاقطون) كشف الغُصّة والابتئاس والكمد في حياة المجتمع  الروسيّ، وقدّم  للقارئ وجوها من الجَزَع والحسْرة والحُرْقة في لغة احْتِجاجيّة مثيرة.  
أما: (كتاب طفولتي) يقدّم فيه تحولات سيرته الذاتية المبكرة من حياة الأسى والكرب إلى حياة الشّهرة والنّجومية. أما أعماله الأخرى مثل رواية: (الأشرار) ومسرحية: (الحضيض) يظل الاحْتِجاج محور القضية، ويظل شبح الحزن والمرض المرير يملأ سماء روسيا، وبالوقت ذاته يكشف مكسيم غوركي عن قرَّاء آخرين من نوع آخر، قرَّاء حقيقيين، لكنّهم  قلائل، يؤمنون بأنَّ الإنسانيَّة سيّدة هذا العالم، وقدّسيَّة مكسيم غوركي الحقيقية في حرية التّفكير والتّعبير والقول والبحث المستمر، ويرى امتياز درجة القراءة بفاعليتها وببصمتها فوق ورقة الحياة بحرية تامة، وإنسانية فياضة، هؤلاء عند مكسيم غوركي قرَّاء حقيقيون يبحثون دائما عن شيءٍ ما، شيء مفقود ويسلكون طريق الحقيقة بالعقل، وينيرون الكون بأضواء جديدة، أضوء الفكر الذي لا ينطفئ.
ويقدّس غوركي الإيمان من أجل حياة ناصعة بالحريَّة والسّلام، فالأمُّ عنده مُقدّسة، والأبناء مُقدّسون، ويقدّسُ كذلك الاستياء الذي يحسُّ ويشعرُ به الإنسانُ أمام ذاته، الاستياءُ في الأغلب يدفعُ الإنسانَ إلى الأفضل دوْما هذا ما يراه مكسيم غوركي، ويقدّسُ رغبة الإنسانِ أيضا في أن يتخلصَ من الشر والداءِ، ووباء الجريمةِ، ومرض الحسدِ، والحروب الطّاحنةِ، ويرى من واجب الإنسان أنْ يجهزَ على كلِّ مظاهرِ العداوة، فتطهير المساحات من الكراهية والبَغضاء والخُصومة والسُّخط والحروب العبثيَّة وما شاكلها من توصيفات تعدُّ واحدة من مْقدّسات مكسيم غوركي.