أنا والدكتور زيفاكو

ثقافة 2022/05/14
...

   باسم عبد الحميد حمودي
 
 كان ذلك عام 1959، وكان مجلس جائزة نوبل قد قرر منح جائزة الرواية للكاتب الروسي بوريس باسترناك عن روايته (الدكتور زيفاكو) التي كانت قد هُرِّبتْ من الاتحاد السوفياتي، وتُرجمت إلى اللغة الإنكليزية لتمنح هذه الجائزة التي أثارت قيادة اتحاد الكُتَّاب السوفييت.. أيامها.
أصدر اتحاد الكتاب السوفييت قراراً بسحب عضوية بوريس باسترناك من الاتحاد، ومن ثم منعه من النشر لقيامه بتهريب روايته المعادية لفكر الدولة والحزب، وعده عدو الشعب، وطلب من رئاسة الدولة طرده من وطنه.
كان ذلك يعني الحكم بالإعدام المعنوي للكاتب الشهير، وكان هذا القرار المتعجّل سببا في سخط الكثير من الأدباء في العالم، وفي العالم العربي، وبينهم غسان كنفاني، ومحمد كشلي، وعبد الله عبد الدايم وغيرهم كثير، ومنهم كاتب هذه السطور. لم يكن بوريس باسترناك أديباً عادياً، إذ كان شاعراً مجيداً ومترجماً بارعاً يترجم عن الفرنسية وعن الجورجية وغيرها، وكانت ترجماته للجورجية سببباً في إنقاذه من السجن والتهجير إلى سيبريا عندما عرضت على ستالين قائمة بأسماء أدباء وكتاب يعادون سياسة الدولة، فشطب اسمه من الإبعاد والسجن، لأنه كان مطلعاً على نشاطه الترجمي الحي في ترجمة قصائد شعراء بلده – جورجيا إلى الروسية.
كنا أيامها ندرك أن رواية باسترناك التي تدين التهجير القسري والنقل إلى الأصقاع السبيرية، كانت تمثل لدى المجتمع الرأسمالي الذي يقود جائزة نوبل فرصة لإدانة الشمولية السوفيتية، لكننا كنا نقف مع باسترناك في أدانته للعسف وقمع الحرية الفردية، من دون الاهتمام بموقف أهل نوبل وخبايا اللعبة السياسية القائمة بين المعسكرين، الحر الرأسمالي الاستعماري والمعسكر الاشتراكي بستاره الحديدي.
كان عمري أيامها لا يتعدى الثانية والعشرين، وما زلت طالباً في كلية دار المعلمين العالية ومحرراً في جريدة (الناس) المسائية لصاحبها عبد القادر السياب عم الشاعر بدر شاكر السياب، والذي كان لا يحبه ولا يلتقي به، رغم ابتعاد السياب أيامها عن التنظيمات اليساريَّة. كانت ضجة تعنيف باسترناك والمطالبة بنفيه من قبل اتحاد بلاده، قد اشتدت في العالم العربي، ونشرت مجلة (الآداب) البيروتية الشهيرة في عددها الثاني من عام 1959 مقالة للاستاذ رئيف خوري حول قضية باسترناك وروايته، أدان فيها موقف الكاتب في روايته التي تكشف البناء الداخلي الهش للاقتصاد وجوع المواطن إلى الطعام والحرية، وقال بضرورة عدم منع باسترناك من العمل الإبداعي رغم إدانته لروايته.
دافع الاستاذ خوري عن قرار اتحاد الكتاب بتعنيف باسترناك ورفض طلب طرده، بل وطلب منه الاعتذار عن روايته.
هنا نقول إنَّ باسترناك لم يستطع السفر لتسلم شهادة نوبل ومبلغ الجائزة فقد رفضها لإرضاء السلطة السوفيتية، وقد سبب ذلك سخط الكثير من الكتاب في العالم.
 في العدد التالي من (الآداب) أفسح رئيس التحرير الدكتور سهيل أدريس المجال للأدباء العرب للرد على رئيف خوري، وكان في المقدمة الدكتور عبد الله عبد الدايم والناقد اللبناني محمد كشلي وكاتب هذه السطور.
وجاء مقالي شرحاً لقضية الحرية التي نادى بها باسترناك في روايته، ونقداً لاذعاً لموقف رئيف خوري المدافع عن موقف اتحاد الكتاب السوفييت من باسترناك الذي توفي بعد سنتين من هذه المعاملة السيئة وربح العالم الرواية والفيلم الذي أنتج باسمها.
كان مقالي شديد القسوة مع الأستاذ رئيف، وكان مقال دكتور عبد الدايم أكثر هدوءاً وكذلك مقالة محمد كشلي.
اضطر خوري للرد على المقالات في العدد التالي بمقالة موسعة كانت نسبة نقاشه لرأيي نحو الثلثين، وقال إنني وضعت رأياً متحاملاً مسبقاً على قرار اتحاد الكتاب.
في العدد الخامس من ذات المجلة كتب الشهيد غسان كنفاني (كان عمره 23 عاماً) مقالة أكثر إيلاما من مقالتي، واتهم خوري بالتعصّب المبدئي قبل إقرار الحرية الغائبة عن باسترناك. كان رأي كنفاني -رحمه الله- معززاً لرأيي، وقد سررت به كثيراً، وقد حدث أن كان الأستاذ رئيف خوري مدعواً مع نخبة من الكتاب العرب لحضور احتفالات الذكرى الثالثة لانقلاب تموز، وقد التقيت به في اتحاد الأدباء ببغداد صحبة أستاذنا الطاهر والشاعر محمد صالح بحر العلوم والشاعر سعدي يوسف على مائدة في حديقة الاتحاد، وناقشنا الموضوع مجددا بروح من الألفة والاحترام والإعجاب المتبادل.. رغم اختلاف الآراء.