مينا الصابونجي.. فرشاة التوق وزيت النستولوجيا

ثقافة 2022/05/14
...

 ابتهال بليبل
 
كان التشكيل العراقي محظوظاً جداً لأنّ أجياله ظلّت تتعاقب من دون انقطاع، حاملة معها بذرة التميز والتفرّد دائماً، لذا يمكن القول إن سطوع وصخب هذه التشكيل بقي حاضراً، وكأنّ الخسارات الكثيرة والأليمة التي مُني بها برحيل وهجرة رواده لم تفتّ في عضده بل زادته قوّة وأسّست لاشتغالات واتجاهات بقيت فاعلة وولّادة حتى الآن، ولعلّ من أهم ما يميزه فضلاً عن خصوبة المنجز ورصانته هو الحضور النسوي الخلّاق منذ الأسماء الكبيرة، نزيهة سليم (1927 - 2008) ووداد الأورفلي وغيرهنّ وحتى آخر رسامة تمزج ألوانها الآن في محاولة جادة لتلوين الحياة.  
ولعلّ (مينا الصابونجي) من الأسماء التي يمكن أن نتوقف عندها وعند تجربتها الفنيّة بكثير من التأمل والاحتفاء في آن واحد، إذ تتميز لوحاتها بأنّها تقدّم دائماً الحياة في أبهى صورها، حياة ممتلئة بالحيوية والنشاط، تتحرك شخوصها داخل اللوحة في نسق لوني وحركي دال يقود الرائي إلى هاجس مخفي داخل اللوحة، عليه أن ينقّب عنه، وكأنّه بديهيّة لا بدَّ أن يعرفها.
 والحياة المبثوثة في أعمال مينا حياة حلوة، شهيّة، نرى في إحدى أعمالها فتاة تجلس على طاولة وأمامها ورقة وقلم وكوب شاي وتستغرق في خيال أخضر يسانده اللون والحركة وهي في لحظة تجلّ شعوري أخاذ، وكأنّها تنتظر قصيدة أو تهمّ بكتابة رسالة إلى حبيب ينتظرها.
النسوة في عالم مينا الصابونجي مبتهجات، دائماً بوجوه جميلة وألوان زاهية، وغارقات في الحرية سواء في اختيار أثوابهن أو في سلوكهن.. أحداهنّ تتأرجح بلون زهري مورّد بالأبيض وتنظر نحو أفق بعيد.. أفق حريتها المتأرجحة في معركة إثبات الذات والوجود. 
تنجح مينا وهي تصوّر مواقفهن الحياتية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمحيطهن وهي تثير ذكريات الفرح والحزن في آن واحد عند متلقي أعمالها، ففي كلّ لوحة ثمة إشارات يمكن أن تأخذ العين إلى تساؤلات حول الحياة داخل اللوحة وخارجها في تمازج وتضاد ما بين قسوة الحياة خارج اللوحة ومحاولة الترميم لكلّ ما هو إنساني داخل اللوحة.
أعمال مينا تبدو في أحيان كثيرة وكأنّها ترانيم حنين لونيّة تعيد إحياء التقاليد القديمة بكلّ تفاصيلها الدقيقة وبضربات فرشاة مغموسة بزيت النستولوجيا.
وهناك شيء آخر أراه في تجربتها المائزة شيء يغري بالتوغل فيه وقراءة مساحاته اللونية المدهشة، وهو انحيازها المميز للمرأة بهذه الطريقة التي تجعل منها -أي المرأة- وكأنّها الحياة ذاتها.. فالمرأة تظهر وهي تعزف العود مرّة، ومرّة أخرى وهي تعزف الناي، وكأنّها تشير إلى أن أيّ منبع للجمال الراقي والفعّال في الحياة ينطلق من عالم المرأة والمرأة فقط. 
 كما تدعو هذه اللوحات المتلقي إلى إعادة النظر في فهمه لمساحة حضور المرأة، واستكشاف الحدود بين المراقبة والتمتّع بين الحياة واللا حياة.
أما ألوان مينا فتمتاز بالوضوح وهناك دائما آلات العزف والأرضيات الجميلة وتفاصيل أخرى كثيرة تتناغم مع ملامح الشخصيات التي تبدو هادئة ووديعة وهي ربّما الوسيلة المثالية لإظهار دواخل النفس البشرية في حالاتها الأكثر إنسانية. 
وعلى الرغم من أن الكثير من الفنانين يجدون تشويه الواقع من أجل التأثير العاطفي وتغير الأمزجة والأفكار عبر ثيمات مثل العزلة والغربة وغيرهما طريقة فاعلة في الرسم.. إلّا أن مينا تقول شيئاً مغايراً من خلال رسوماتها التي تبدو انعكاساً وجودياً يحتفي بالذكريات بطريقة هادئة وجذّابة وتغمر من يشاهدها بالحبّ والانسجام 
والأناقة. 
مينا لا تنكر تأثرها بجواد سليم وبلاسم محمد، كذلك تؤكد على حبّها للبيئة البغدادية، ولكن المتابع لأعمالها يجدها في ركن آخر، حيث تبلورت تجربتها الخاصة مشكّلة حالة مهمة في التشكيل الجاد والحقيقي.