عزيزي الكاتب: عنوانك حصانك

ثقافة 2022/05/15
...

 د.عبد العظيم السلطاني
للأدب الإنشائي صيغ فنية متعددة، فمنه الشعر والرواية والقصة القصيرة... ومازالت هذه الصيغ تنشر في كتاب له عنوان، وعن عنوانات هذا النوع من الكتب أتحدث. وقد يقع بين يديك كتاب من هذه الكتب، فتقرأ على غلافه جملة شارحة وقد كتبت بعناية لتكون عنوانا لهذه المجموعة الشعرية، أو تلك الرواية أو المجموعة القصصية؛ وأنت تقرأ وقبل أن تنتهي من قراءة الكتاب قد تنسى عنوانه لطوله!.
 
وقد لا تحفظ من ذلك العنوان سوى كلمة أو كلمتين. فكيف بك إذا حاولت تذكر العنوان بعد سنة أو أكثر من تاريخ القراءة؟! لا شك أن ذاكرتك ستكون في مأزق، وقد تظن بها الظنون! 
لا يعنيني هنا التحدّث عن القيمة الفنية والثقافية لتلك الأعمال الأدبية (الكتب) فقد تكون جيدة المضمون، ولا يعنيني، أيضا، الحديث عن مدى ارتباط العنوان بمضمون العمل الأدبي؛ يعنيني هنا الحديث عن جزئية صغيرة في العنوان وهي طول العنوان، ففي هذا الطول دلالة على تخلي الأديب عن بعض سر صنعته، التي تستلزم مهارة في صياغة عنوان مكثف يعلق في ذاكرة المتلقي.
لأبدأ بأمثلة من بعض عنوانات لمجموعات شعرية منشورة: (أكليل موسيقى على جثّة بيانو) لجواد الحطاب، (سأحبك في الصيف القادم ونغلب أمريكا) لعامر الطيب، (إذا كنتَ نائما في مركب نوح) لسركون بولص، و(اليوم الثامن من أيّام آدم) لشاكر مجيد سيفو، (تلك زهرتك.. وهذا حُزني) لفاضل الغزّي. والقائمة تطول والأمثلة عديدة.
وفي عالم الرواية والمجموعات القصصية، أيضا، تطالعك عنوانات طويلة تجد نفسك محتاسا فيها، كعنوان رواية خضير فليح الزيدي (دع القنفذ ينقلب على ظهره)، ورواية بتول الخضيري (كم بدت السماء قريبة). ورواية فلاح رحيم (الشر الأخير في الصندوق). وقد تجد عنوانا لمجموعة قصصية ينطبق عليه التوصيف نفسه، كعنوان المجموعة القصصية لعلي لفتة سعيد (ضباب هرم لساعات ميتة).
 هذه عنوانات لأعمال أدبية نشرت كلّها في القرن الحادي والعشرين، وهو القرن الذي فيه ما فيه من التحول والتغيّر المتواصل. والكاتب -هكذا نفترض- أكثر حساسية من غيره في استشعار المستجِد والمتغيّر، ومن هذا التحسّس والاستشعار أن يدرك أن ذاكرة القارئ صارت غاصة بالعنوانات التي تلفظها المطابع يوميا وبالعنوانات والأسماء التي تطالعنا بها مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية.
طبعا، لا يعنيني منطق «الموضة» الذي قد تسري عدواه إلى الكتّاب، فيقلدون بعضهم في عنوانات طويلة. مثلما لا يعنيني أن أديبا كبيرا - عربيا أو عالميا - استعمل عنوانا طويلا لكتاب أدبي، فمَنْ يصنع هذا الآن يجانب الصواب كائنا من كان. فالعنوان المصاغ بكلمة أيسر على الذاكرة من أخيه المصاغ بكلمتين، وهذا الثاني أيسر من عنوان بثلاث كلمات إنشائية، وهذا الأخير أرحم على الذاكرة من عنوان بأربع كلمات أو خمس.. وهكذا يكون الموقف من هذه العنوانات ليس موقفا مزاجيا إنّما هو أمر يتعلق بمنطق الحفظ والتذكّر لدى الإنسان المتلقي. وهو، أيضا، أمر يتعلق بالجودة وباهتمام الصانع بصنعته والارتقاء بها. ومن علامات ذلك الاهتمام اختيار عنوان مناسب (دال ومكثف ويعلَق في ذاكرة القارئ). وعلى الرغم من اختلاف المجموعة الشعرية عن الرواية والمجموعة القصصية، وتدخّل الإيحاء الشعري في عنوانات ما هو شعري منها؛ إلّا أنّها تشترك جميعا في الحاجة إلى عنوان موجز مكثف يعلق في ذاكرة القارئ، لا أن يكون شرحا وتعليقا وجملا
إنشائية... ويرتبط طول العنوان بجنس الكتابة، فقد تُقبل العنوانات الطويلة في الدراسات النقدية والأبحاث، حين يضطر الكاتب إلى إطالة العنوان لدفع لبس أو تحديد متسع، ليرشد القارئ إلى ضالته مباشرة.. وقد يكون عنوان مقالة طويلا لغاية معيّنة، ومثل هذا يُقبل، لأن الكاتب يبغي جذب القارئ ليقرأ المقالة في تلك اللحظة، وليس من أولويات كاتب المقالة أن يلتصق عنوانها في ذاكرة القارئ، فهي مقالة آنية تُنشر في الصحف وليس كتابا أدبيا يُراد لعنوانه أن يعلق في الذاكرة، لا أن يكون طويلاً فيثقل ذاكرة القارئ ويدفعها إلى النسيان دفعا.
وصناعة العنوان فن، يتطلب مجموعة من الشروط كي يكون عنواناً ناجحاً. ومن بين أهم شروطه أن يكون موجزاً مكثّفا يعلق في الذاكرة، ومحرضا على قراءة المتن الذي هو عنوانه. وقد يستفز قارئاً عنوانٌ لا يجري فيه لسان القارئ من دون تعثّر، فليس من الحكمة استعمال مفردات في عنوان يتعثر بها اللسان ولا تُنطق بسهولة، فصعوبتها قد لا تكون سبيلاً إلى تحريض القارئ على قراءة الكتاب بل قد تكون سبيلا إلى القرف من الكتاب.. ولعلّي أكون على صواب حين أتصوّر أنّ الصحافة الاحترافية تساعد كثيراً في إرشاد الأدباء إلى صياغة عنوان ناجح لأعمالهم
الأدبية.  
لذا أقول بقليل من البراءة: عزيزي الكاتب، لطفاً وليس أمراً، اختر لكتابك الأدبي اسماً موجزاً يتذكّره القرّاء، واحفظ لصنعتك هيبتها، واحجز لمنجزك مكاناً في ذاكرة التلقّي، وادفع عن ذاكرة القراء بعض الضرر والإزعاج. فالكتب صارت بعدد حبات الرمل في صحراء، لذا ضع لكتابك علامة لا تضيع فيها الذاكرة في تلك الصحراء.