الهجاء وتطوره

ثقافة 2022/05/15
...

  ياسين طه حافظ
 سواء كان موضع احترام أم لم يكن، هو أولا نمط، أو نوع من الشعر، وثانياً هو ليس ذا مضمون واحد. وإن كان مضمونه واحداً فهو ذو اتجاهات شتى منها ماهو موجه لعيوب أو مثالب أشخاص أو كشف أسباب عدم الرضا عنهم ومنه ما لا يهتم بشخوص، ولكن بأحكام وأوضاع وأحوال زمن. فقد يتجه لهذه من خلال هجاء الشخوص الذين يعيبهم الشاعر لرذائل وعيوب فيهم أو لكراهته لهم ما يؤاخذهم عليه.
 
عرفنا الهجائيين العرب ومنهم من بالهجاء اكتسب مجده أو شهرته وأحياناً أضاع قيم ومفاخر شعره بسبب طغيان الهجاء وكثرته. وتخليه عما في الحياة من أمور مهمة أخرى!، وهذا ليس مذموماً دائماً. هو ما قد يُحتاج له لكشف زيف أو بخل أو صنعة.. فهو كشاف عيوب وفاضح رداءات شخصية، وقد تتسع قصيدته لتقصد قضيةً أو تاريخاً أو حالاً.
لا أريد تعداد أسماء يعرفها القارئ أو درسها أو حفظ لها. ما يهمّني أنَّ الفن الشعري تطور، فما عاد الهجاء شخصياً بحتاً، ولكنه صار هجاء دولة وحكم وظروف اجتماعية وسوء أحوال. ومثل هذا الشعر وهذا الهجاء يشفي غليل مستائين ومعانين ينتظرون من يثأر لهم أو يعبر عن استيائهم فيرتاحوا. 
السياسة لم تتأخر من الإفادة منه لشتم وكشف عيوب الحكم والحاكمين. وبسبب من ظروف الناس السيئة واستياءاتهم الواسعة يجد هذا الشعر هواة ومحبين، كما يجد شعراء يقفون إلى جانبهم وإلى جانب شعوبهم. فهو اسهام مخلصين لقضية أو قضايا، كما هو وقوف إلى جانب مستضعفين بما ملكت أيديهم وما امتلكوا من طاقات تعبير. وعملهم هذا نضال وطني في جانب منه، لا سيما إذا كان عامراً بالانتباهات الذكية وظل محتفياً بالفن الشعري فما استسهل الكتابة فيه صاحبه ولا هان.
هذا النمط من الشعر لا يخلو منه أدب من الآداب في كل لغة وبلد وليس مقصوراً على العرب أو على الأدب العربي. بعض منه صار وثائق تعين على دراسة مجتمع لما فيه من شواهد.
بقي أن يرتقي أكثر فيقصد رداءات أرواح وسوء عقول وتفكير وتعاسات أخلاق وسلوك. وأرى أن هذه المساحة تمتنّ لمثل هؤلاء الشعراء – لا كبعض المسهمين في النضال الوطني حسب ولكن في التعبير عن استياء الناس من سقوط أفراد وتردي قيم وكذب مظاهر وادّعاءات.
في ديوانه «مسؤوليات» وردت للشاعر الانجليزي الايرلندي ييتس قصائد نبيهة وخصبة يهجو فيها حالات من الإيمانات الكاذبة والحب الزائف، والقناعات غير الحقيقية، أو الواهمة. 
لعل قصيدته أيلول 1913 فضلى تلك القصائد. لقد هجا بلاده ايرلندا والصورة التي يراها بها بعض أبنائها، وهي قصيدة تبقى في الذاكرة بسبب توحّش التعبير والدلالة فيها: «لأن ايرلندا الرومانتيكية ماتت ومضت» هو مستوى آخر من الهجاء، أرقى وأوسع وأقرب للثقافة ولحضارتنا.
وفي قصيدة أخرى يقول عن أسلافه: «لقد تركوا لي دماً»!، وحين يعيب جانباً شخصياً لا يشتم، لا تسقطه التعابير والألفاظ مما يُحسن العوام، ولكنه يقول: «إلى صديقه وصل عملها إلى شيء»!، ولعله يعني جريجوري التي واصلت النضال لتُمنى وثبة ايرلندا بالنتيجة. أو حين  يقول عن الثوار الايرلنديين: إنهم وُزِنوا بخفة ما أعطوا»!، وهو مع هذه المشاعر المستاءة ينوّع أبعاده الدلالية، فهو يكشف «حقيقة كل هذيان الشجعان»:
«وسوف تصرخ»: «الشعر الأصفر لامرأة أو «هذه الدمى المستثارة».. قال الكثير من هذا وهو مسكون بحب ايرلندا ويعلي روحها الأصيل الذي لم يلوّثه الكذب..
ماهو نافع وجدير بالذكر أن أزرا باوند امتدح قصائد مسؤوليات حين صدورها، امتدح «عافيتها الجديدة» حيّا ييتس لدخوله ميدان الهجاء الأدبي: «هناك كثير من الحمقى يجب قتلهم». ولكن ييتس لم يقتلهم، ييتس أسف لعيوبهم أو لضلالهم وشعر بالرثاء لهم وهم يهونون أو وهم يعيشون بلا حقيقة وبلا معنى..