القصد الدلالي في بائع المطر

ثقافة 2022/05/15
...

 ماجد الحسن
 
هناك علاقة جوهرية بين (المعنى) و (القصد)، هذه العلاقة تفترض بعض الأبعاد، من أهمها (البعد التركيبي) الذي يلحقه (البعد الدلالي)، فالبعد التركيبي يعطي للمفردة ومن خلال تجاورها المضموني مع بقية المفردات بناء جملة شعرية، يعطيها بعداً دلالياً ذا قصدية، هذه القصدية تتبع إمكانية الوعي الشعري، ونتيجة لهذين البعدين تتسع مقاصد النص وتتوضح، وتتنوع أيضاً تبعاً لتنوع (السياق)، الذي يقتضي الاندماج في الكفاءة القصدية للنص، ومن هنا ندرك أن المحتوى الدلالي لا يمكن فصله عن القصدية، فوراء كليهما (الدلالة والقصد) تكمن أبعاد المعنى الشعري وثراؤه، وهذا ما يمكن بيانه في نصوص الشاعر عبد الحسين بريسم وفي نصه الموسوم «خسائر»: (الخسائر/ التي جلست كثيراً/ على مساطب/ حياتي.. ستنزل هذه المرة/ الى ساحات الفوز).
 إنَّ مفردة الخسائر هي من المفردات الشائعة في لغة الثقافة الشعبيَّة، وإنَّ دلالاتها لا تخرج عن حدود المعنى المقصود بذاته، وبالكيفية نفسها استخدمها الشاعر لكونها تتوافر على خاصية الاستعمال اليومي، ولكنه تعامل معها على أنها كائن حي فهي تجلس وتنزل، ولذلك انحرف المفهوم الدلالي لها، بأن جعل منها كل الحياة.. لقد حقق الشاعر في هذا النص ومن خلال كلمة خسائر الأفعال التي عوّلت عليها التداولية وهو (فعل القول) أي إطلاق ألفاظ في جمل سليمة، وكذلك (الفعل المتضمن في القول) أو ما يسميه (أوستن) بالأفعال الانجازية، بمعنى أن الشاعر أكّد صيغة (التعطيل)، ثم الفعل التأثيري وهي المقصدية التي يريد من خلالها التأثير على القارئ. 
إن ما نريد تأكيده، هو أن القصدية سواء في هذا النص أو النصوص الأخرى للشاعر لم يعد لها نسق ثابت، ولا وظيفة محددة، لذلك فإن الأمر برمته يتعلق بطبيعة رصد تحولات السياق الذي يلاحقه تغايرات الخطاب الشعري، ومن هنا ندرك غياب كل مؤشر اعتباطي في القصدية، فهي مدركة ولها شروطها التي تنتج عن جملة من العلاقات تساعد في تحولات المعنى الشعري ورهاناته الحياتية والفكرية والثقافية، لذلك أعتقد أن القصدية في نصوص الشاعر تنحدر من وعي يمسك بمجريات الحدث الشعري مما تحدث تغيراً في قواعدها التداولية وجوهر أنساقها، فلا يمكن لها الحفاظ على خصائصها التداولية، بل تجترح لها تشكيلة مغايرة تتماهى والخطاب الشعري العام في ترميزاته ودلالاته، ولهذا ندرك مثل هذا التوجه في نصه الموسوم (أحلام موقوتة) التي غيّر فيها قصدية (الحلم)، كقوله: (الأرض تحلم/ بالتوقف عن الدوران/ لأنّها أخيراً/ أصيبت بالصداع/ السماء تحلم/ أن تلمَّ نجومها وتغادر/ لتتخلّص من تحديق الآخرين/ المرأة تحلم..). 
لقد اعتمد النص في (قصديته) على ثنائية واضحة وهي (الأرض/ السماء، المرأة/ الرجل) وبين هذه الثنائيات ثمة تجاور دلالي يجمعها (الحلم)، ومن خلال تكراره ضمَّ عناصر كثيرة ومتنوعة تمثل ما يصبو إليه الشاعر في استقطابه للمعطيات الخارجية منها الطبيعية والإنسانية والحيوانية وحتى النباتية، وهذا التنوع في عناصر الطبيعة له مقاصده من خلال تمظهره النصّي، فالشاعر يعيد صياغة الواقع لا على وفق المتعيّن فيه، بل المفارق، ففي تأكيده على أن الأرض أصيبت بالصداع، والسماء تغادر بسبب تحديق الآخرين، والمرأة تتمنى أنوثتها، وكذلك الرجل.. إلخ، وهكذا يتنامى النص ليلتقط مقاصده من تصادم الثنائيات بوصفها صيرورة سيميائيَّة لها قصديَّة في حضور المغايرة وتكثيفها.. (الأغنام تحلم/ بمراعٍ رافلة/ برؤوس ذئاب يانعة/ الطيور تحلم/ بشجرة عالية/ لكي تجفف أجنحتها من التعب/ الماء يحلم/ بسفن غارقة/ لكي يتمتع بإنقاذها/ ولكن/ ترى الأحلام/ بماذا تحلم).
 لقد اعتمد النص في بناء مقاصده على الثنائيات ليؤكد بعدها ما يمكن تسميته بـ (التعالق الدلالي)، كما هو الحاصل بين (الاغنام والمراعي) و (والطيور والشجر) و(السفن والماء)، وكل هذه التعالقات يتوسطها رمز له قصدية واضحة في النص من قبيل (يانعة، وتعب، وانقاذ)، ومن خلال دورة الدوال تتكشف مقاصد النص التي اختتمها بنتيجة مفارقة وهي (ترى الأحلام ، بماذا تحلم)، لذلك تسعى قصدية النص إلى التعامل مع الثنائيات الواقعية بوصفها رموزاً تتكشف من خلالها طبيعة (الإنسان)، ولكن هذا السعي لا بد أن تحكمه (رؤيا) تعي طبيعة تعالقها الدلالي المفارق، لأن لها قصدية في تراكيب تحوّل عن طريقها المتعين إلى رمز، وهذه التحولات القصدية تحتاج إلى ثراء لغوي لا يتكئ على (وقائع) وإنما (على دوال).