هدير الليلة الصاخبة

ثقافة 2022/05/17
...

 ترجمة: علي ماجد
لم يكن شاعراً فحسب، لقد ولد من رحمة الليالي العميقة، الليالي التي تمرحُ بها الذئاب.. ذئاب القرية المخيفة التي يسكنها الشاعر الروسي ماياكوفسكي. فمنذ نشأته إلى حين وفاته، كان مختلفاً حتى في موته. إنه ذو الموهبة العظيمة. استطاع أن يترك للعالم إرثا كبيراً، ليس في الشعر فقط، إنما في تأثيره الكبير على شعراء العالم. 
لعب ماياكوفسكي دوراً كبيراً في تنمية العديد من الشعراء وعلى رأسهم الشاعر التركي ناظم حكمت. إذ تمكن ناظم حكمت من صقل موهبته وفنه من الشاعر الروسي الذي كان يطلقُ عليه لقب «المعلم». 
تعود معرفة الشاعر التركي بماياكوفسكي إلى عشرينيات القرن الماضي، وهي المرة الأولى التي ذهب بها حكمت إلى روسيا. فأثناء وجوده في روسيا تمكن من العثور على قصيدة لماياكوفسكي، تحديدًا في صحيفة «برافدا» أحد أهم وأكبر صحف العالم خلال فترة السوفيت، «لا أعرف تحديدًا إن كان هذا النص بخط يد الشاعر الروسي؟» لم يكن هذا النص عابراً كبقية النصوص التي تلقاها ناظم حكمت، إذ كان بمثابة الدليل الذي بإمكانه أن ينمي به قدرته على كتابة الشعر كما يحلو له. 
لم يكن حكمت يعرف اللغة الروسية آنذاك، ولا يستطيع ترجمة ما يكمن في النص. ولكن الغريب ليس في ترجمة النص، إنما في شكل النص الذي عثر عليه. لم يكن كبقية النصوص، التي اعتاد على قراءتها ورؤيتها، كان يشبه الكتلة تماماً، يمثل خطوطاً عريضة متناسقة في ما بينها غير مقطعة.. لم يمر هذا النص كسابق النصوص التي مرت على حياة الشاعر التركي، لقد تأثر بشكل النص تأثراً لا يوصف. 
عندما وصل إلى موسكو آنذاك أراد تجربة الكتابة بشكل النص الذي عثر عليه، إنه الشكل الذي يشبه الكتلة المتناسقة في ما بينها، أي أنه يمثل مقطعا كاملاً خالياً من القص والمسافات التي تجتاح بقية النصوص، لكنه أيضا لا يخلو من الوزن والإيقاع؛ لأن ما يزعم به الشعر الروسي، هو الشكل المقفى في قصائدهم. 
كان ناظم حكمت مغرماً بشعرهم إلى حد كبير إلاّ أنه كان متيقناً تماماً بأن هذا الشكل لا يمثل مقاييس النص الفرنسي إطلاقاً. لم يمض كثيراً حتى تمكن من كتابة نص اسماه «عيون الجياع» مكتوباً بالشعر الحر، ليكن هذا النص أشبه بولادة الرحمة التي بإمكانها أن تكتب للشعر التركي عمراً جديداً. لذا أصبح ناظم حكمت مديناً لماياكوفسكي الذي منحه القدرة على كتابة النص بالشكل الحديث.
في عام 1960، وتحديداً في إحدى الإذاعات الفرنسية، صرح ناظم حكمت في مقابلة خاصة: لقد تمكنت من مقابلة ماياكوفسكي للمرة الأولى عام 1922 في موسكو. كان هناك من بين معارفي فتاة روسية شابة دعتني إلى منزلها، كانت تقيم في غرفة فندق صغير. وكان هناك الكثير من الدخان لدرجة بالكاد نرى بعضنا البعض. كان الصوت مرتفعاً جداً والجميع يصرخون. أدركت في الصراخ بأن هناك شيئاً مثل جهير الطبل يأتي صاخباً، لم أسمع صوت الطبل فحسب، بل رأيت الطبل نفسه. كان كبيراً يتقافز الجميع حوله فرحاً. لم ننتظر كثيراً حتى تم تقديمه لي، قال لي أحدهم أسمح لي أن أعرفك بالشاعر الكبير ماياكوفسكي. 
لم أستطع تخيل الأمر لحظتها، لقد تلعثم كل شيء في جسمي ليس لساني فحسب، لم أتمكن من الرد حتى بكلمة واحده عليه “يا الله” لقد كان شاعراً معروفاً جداً ليس فقط في روسيا إنما في جميع أنحاء العالم. 
عندما التقيته للمرة الأولى في تلك الليلة، كان عمري تسعة عشر عاماً. لم أكن شاعراً معروفاً، حتى أنني لا أفقه شيئاً في الروسية. في تلك الليلة، الليلة التي فتحت بها عيني على الشعر، عندما استدار نحوي طلبت منه أن يقرأ لي إحدى قصائده برفقة من يعزف هناك في الزاوية. نظر الجميع لي باستغراب. لم أشعر بالخجل مما طلبته؛ لأني مدرك جيداً بأن الشعر الروسي في تلك اللحظات كان يعزف ويغنى. قرأ لي ما يكفي. لقد كانت القصائد حزينة جداً رغم هدير الإيقاع الذي يتقافز في تلك الأمسية. صحيح، لم أكن معتاداً على هكذا أشياء لكنني استمتعت كثيراً لدرجة أنني لم أرغب بمغادرة الفندق، اردتُ المواصلة حتى الصباح. أعتقد بأنني كنت محظوظاً لدرجة كبيرة. كان بجانبي أحد أسمى وأنقى الشعراء في العالم. لم أستطع نسيان هدير الليلة الصاخبة، إنها الليلة التي أعدتُ بها ترتيب النص، الليلة التي جعلت من ماياكوفسكي صديقاً لشاعر شاب لم يبلغ العشرين من عمره.