أساطير الخصب في الديانات القديمة

ثقافة 2022/05/17
...

  ناجح المعموري
كان التأثير الشرقي واضحاً في الأسطورة الإغريقية الخاصة بــ (هيلين)، حيث التركيز على ولادتها المعروفة عبر اتصال رمزي/ خارجي، فعندما كانت (ليدا) الجميلة تسبح في البحيرة، رآها الإله «زيوس « رب الأرباب الإغريقي وأعجب بها، فتحول إلى ذكر أوز، هرب بعد ما لاحقه نسر كان هناك، فلم يكن أمامه إلا اللجوء إلى (ليدا) والاحتماء بها من النسر، وأحتضنته، ففتح جناحيه محتضناً إيّاها وخلال تلك الفترة اتصل بها بواسطة منقاره وخصبها بــ (هيلين)، وكانت الأم الكبرى الإغريقية “اورينومي” وحيدة وبدون زوج، لكنها خصبت بما هو خارجي وبدون اتصال بايولوجي، وكان اتصالها بالهواء، الطيور/ الأشجار، ومن تخصيبها المستمر ولد كل شيء في الكون. 
ونقرأ في أسطورة يونانية كيف أن اكريسيوس ملك ارغوس في بلاد اليونان انبأه الموحي بأنه لا يرزق بوريث، ولكن ولداً لابنته (داناني) سوف يقتله ويغتصب منه العرش، وخوفاً من تحقق النبوءة شيد غرفة من نحاس (البرج النحاسي)، تحت الأرض ووضع فيه ابنته ومربيتها حتى لا تكون اماً في يوم ما. ولكن الإله “زيوس” رأى الفتاة ووقع في حبها، وجاءها على شكل مطر ذهبي وحملت منه بولد ربته بالسر مع مربيتها، وأخيراً عرف والدها الملك بالأمر فقتل المربية، ووضع ابنته وولدها في صندوق ورماه في البحر ووقع الصندوق في شبكة صياد اسمه “دكتنس”، الذي أخرجهما وربى الطفل وسماه “يرسيوس” ومن بعد قتل “برسيوس” وجده ملك ارغوس وأخذ العش منه.
كانت “لوكريزيا” في بلاط الملك “تاركني” وفي أحد الايام كانت تقدم كالعادة الكعك وتسكب النبيذ على المرقد الملكي، عندما انطلقت من النار شعلة على شكل عضو الذكر.. وقد حبلت “لوكريزيا” بفعل الإله أو روح النار. وعندما حان الوقت وضعت “سيرفيوس”.إن رماد نيران الفرح يخصب الماشية والمزارع لأنه يخصب النساء، وأنها لخبرة نار الحب التي هي اساس الاستقراء الموضوعي... وعند فريزر أن نيران الفرح هي نيران اعياد ذات صلة بموت آلهة النبات، لا سيما نبات الغابات. وعندئذ يمكننا أن نتساءل لماذا تحتل آلهة النبات مثل هذه المكانة الرفيعة في النفس البدائية، ما هي، إذن، الوظيفة البشرية للغابات: أهي الأظلال؟ أم هي الفاكهة البالغة الندرة والبالغة الهزال؟ أليس حريا بها أن تكون النار؟ وها نحن أولاء أمام أحد خيارين: أكانت تصنع النار من أجل عبادة الغابة، كما يذهب إلى ذلك فريزر، أم أن الغابة كانت تشعل من أجل عبادة النار.
وتضيء أسطورة “لوكريزيا” العلاقة الوثيقة بين النار وفعل الخصب، وعرفتنا بأنَّ المرأة كانت تسكب النبيذ على الموقد الملكي، لتزيد النار اشتعالاً، وحتماً كان الحطب الموجود في الموقد هو بقايا اشجار الغابات، واشتعال الأشجار والنبات، تعني ضمناً الإشارة لموت الهة النبات وخصوصاً نبات الغابات. وفعلاً صارت النار في الموقد الملكي علامة على الفرح والانتشار بالنسبة للمرأة، التي انطلقت إليها شرارة تحولت إلى سهم قضيبي، تمكن من تخصيبها، والولادة التي هي نتيجة للحمل، تعويض، أو بديل لموت آلهة النبات، والذي هو حتماً من الآلهة الشابة القتيلة، التي تموت وتنزل العالم السفلي ومن ثم يعاود انبعاثه مرة ثانية. 
وللنار طاقة تخصيب ، مثلما في العديد من الأساطير التي اشار لها فريزر، ودرس بعضها الفيلسوف باشلار في كتابه الذي اشرنا إليه، ويقال بأنَّ  الفتاة لن تكون أماً خلال العام، لأن اللهب لم يمسها ولم يخصبها. 
واشار باشلار إلى أن غزو النار قد تمَّ بدائياً على اساس جنسي، فلا عجب أن تظل النار مستجنسة طيلة هذه المدة وعلى هذا النحو من الشدة. 
وينحرف رمز النار في الديانة البوذية، وتصير رمزاً انثوياً، وتعيده البوذية لأصله الأول المتوازي مع المرأة، ومتناظراً معها. ففي أساطير بعض الأقوام، كانت النار نتاجاً انثوياً وهي المعلمة الأولى لكيفية حدوث النار والمكان الذي احتواها .
وفي أسطورة من أميركا الجنوبية يعمد البطل ابتغاء الحصول على النار إلى مطاردة امرأة، فيثب عليها ويمسك بها، ويقول لها إن سوف ينالها إن هي لم تكشف له عن سر النار. وبعد محاولات عديدة للإفلات منه ترضى بأنَّ  تكشف له عن سرها. جلست على الأرض، وفخذاها منفرجتان، ثم تمسك الجزء الاعلى من بطنها فتهزه هزاً شديداً وتدحرجت على أثرها كرة نارية على الأرض صادرة عن المجرى التناسلي.
وظلت النار رمزاً أنثوياً في الديانة البوذية، حيث وردت إشارة صريحة من أجل تكريس الدور الكهنوتي وترويض الجسد للتخلص من رغباته اللذية/ وإماتة شهوته تماماً. وحفلت أساطير شرقية عديدة برموز ذات قدرة تخصيبية، خصوصاً الرموز التي عرفتها الديانات القديمة وكادت أن تكون رموزاً مشتركة بينها. رموز انطوت على دلالة معينة وفي مجال حضاري ما. وتعارفت عليها المجالات الأخرى، وبسبب الصراع المعروف في بني الديانات، كانت رموز عديدة تتقشر ويحصل فيها تخلٍّ عن الدلالة السابقة ولكنها لا تنسحب من المحيط الحضاري، بل تظل قائمة، لكنها تحوز على دلالة جديدة وتشكل محوراً مهيمناً في النسق الثقافي الجديد ومن تلك الرموز، رمز الافعى وهي من أكثر الرموز تداولاً في الخطاب الأسطوري، وارتحلت وتغيرت فضاءاتها الدلالية مرات عديدة. كما أنها تتخذ أشكالاً مختلفة من أجل وظائف خاصة، وأهم تلك الوظائف هي أفعال الخصب والانبعاث. وتروي أسطورة كوجيكية أن إله جبل ميوا المعروف بولعه بزوجاته الجميلات، وقع بحب عذراء، فانقلب إلى سهم احمر ــ وهذا رمز قضيبي ــ وارتطم فيها، فأخذت السهم معها ووضعته بجانب فراشها، حيث انقلب إلى شاب جميل واتخذ الفتاة زوجة له.
وتتخذ هده الرموز أشكالاً كثيرة وذات وظائف محددة وتنطوي على دلالات لها علاقة بنظام الخصوبة في الحياة والكون. وتقف الذكورة وراء هذا الزخم الكبير من الأساطير الخاصة بفاعلية الذكورة، وسلطتها المهيمنة، بما فيها القدرة على الفعل الاتصالي والذي اتخذ انماطاً عديدة ، ظلت في مجال الخصب والتجدد، وصعود السلطة الذكورية/ الشمسية مهيمنة وقائدة للنسق الثقافي/ الديني. ولعبت الأساطير الخاصة بالجنس دوراً لإعلاء الذكورة وتمجيد قدرتها على التلون والتحرك بشتى الأشكال والطرق من أجل تكريس خطابها الشمسي.لقد درج عاشق غامض على زيارة فتاة في الليل وجعلها تحبل منه. وأراد أهلها معرفة هويته، فأبلغوها أن تخيط على ثوبه خيطاً من القنب، ثم تتبعه إلى حيث يقودها، وفعلت ذلك، فاكتشفت انه يفضي إلى ثقب مفتاح الباب لمزار إله جبل ميوا وهو الذي كان قد زارها بهيئة افعى. وهذه الأسطورة ومثيلاتها ما زالت تروى في كل مكان. ومن الواضح أن إله جبل ميوا كان يُعدّ بمنزلة افعى. أو ينتحل شكل أفعى. وهذا الجبل هو اليوم مركز عبادة دينية مزدهرة، يمور بالأفاعي التي تلتهم القرابين التي يتركها الزوار.