سجون

ثقافة 2022/05/17
...

  حميد المختار
 
حين ننظر إلى الحِقَب الزمنية للمجتمع منذ زمن التابوات وحتى حدود العقلنة يتبيّن لنا أنّ السجون باختلاف أشكالها هي نوع من الأماكن الكامنة، الخفية، المقصية بإقصاء الجسد البشري وروحه التواقة للخروج إلى العوالم الخارجية، إذن ما الثمرة من كل هذه المعاناة بين الجدران والقضبان؟!.. يقول (ميشيل فوكو): «إنّ السجون الحديثة تَعزِفُ عن تعذيب (المجرم)، حين تعزف عن ذلك تتراجع عن إيلامِه جسدياً لكنها تُضَخّم عُزلته، لأنها اهتدت إلى معرفة أنّ الحصار الروحي أكثر ايلاماً من مُلاحقة الجسد»، فحين تُقْصى أَناك عن (النحن) وتُحشر بين أَنَوات مفقودة ومعزولة، ستبقى أناك متشرنقة في ضباب الوجود، وهو وجود خارج على سياق الحياة السّوية التي كنت تمارسها قبل دخولك السجن، تلك هي ثمرة العقاب، لكن أين ثمرة الإصلاح بالمعنى الذي سارت عليه الحكومات والأنظمة؟.
إنّ الذي حصل هو مأساة كونية يكون الموت دونها سهلاً في أكثر الأحيان، لأنه سيدخل برزخاً معزولاً كأنه في كوكب بعيد عن البشرية، هذا البرزخ شكَّل نوعاً من الحيوات الخفية التي كثيراً ما تُشبه القبور، لكن الفرق هنا هو وجود الأحياء في تلك القبور بدل الأموات، لذلك أقول إنّ السجين هنا هو ذلك الكائن الرّابِض بين الموت والحياة، لأنه ليس بميت ولا حي، وقد يكون هو الميت الحي، إنه في وضعه الصعب هذا يكون قد عاد ثانية إلى رحم أُمومِي، فالرحم هو السجن الإنساني الأول الذي تحول فيه من كتلة هلامية غامضة إلى كائن بلحم ودم في سجنه الشفاف الذي يُطعِمه ويرويه، إذن هي عودة ثانية إلى سجن الخليقة الأول، لكنه الآن أكبر حجماً، وأقوى شكيمة وأذكى وأصلب عوداً، بذلك تحوّل الرحم الثاني إلى حديدٍ وأسلاك شائكة وأقفال كبيرة ومفاتيح مفقودة في ظُلمات الأنظمة المستبدة.
وهنا أجد من الضروري أنْ نحوّل أنظارنا إلى (غاستون باشلار) وأماكنه الدافئة في غرفة النوم أو ظلمة القبو وصولاً إلى الرحم الإنساني، كل هذا سيكون نائياً عن مُدْرِكات السجين الحسّية ومُتون حياته المقيدة بالأصفاد، إنّ مكان السجين وأقبِيَتَه مقارنة بأقبية البيوت  تَجعلنا ننأ عن أية مقارنة قسرية تُخْضِع الثانية إلى جبروت الأولى، فالأولى مرتجَلة، قاسية، محتَكِمة، صارمة، قوية، عنيفة، مستَبِدّة، ظالمة، ومشروطة برهانات غير انسانية، بينما تكون الثانية أليفة قريبة إلى النفس، ممكّنة وخاضعة إلى رغبات النفس الخفية، جاهزة للألفة، تَقود إلى متع حسية برياض ممتنعة عن غيرها، تعيشها الأجساد في المنامات وهي تنسج الأحلام وتحوم الأرواح حول أرائكها الوفيرة، طفولاتها مدوَّنة في كل الزوايا بلا إمحاء أو إقصاء، بل ثمة تَجَلٍّ واضح بشخصنتها، بعوالمها الأُمومِيّة التي تقودك إلى الرّحم الأول، ومن هنا سيُروِّض السجين نُمورَ رغباته الجامحة ويحولها إلى خِرافٍ طيّعة مهجّنة مُستَسْلمة تُقاد إلى جِزارَتِها الخاصة بكل مودة وطواعية، وسيتحول إلى مروّض ذاتوي يَشيءُ أناه ويضعها على طبقٍ يقدمه إلى سجّانه، فماذا سيفعل إذاً في تضاعيف ظلامه؟! إنه بالتأكيد سينسج شرنقته محوّلا إيّاها من معدن صلد إلى حياة خيطيّة طويلة يلفها حول مِعْصمه وسَريره وسريرَته، سينتبه إلى فقدان حركة القدمين وعُطل أعضاء جسده الحساسة ومحو ذاكرته، إنّ السجين في عوالمه الخفية صار نزيلاً لذات الإنسان وها هو يجعل من جحيمه اليومي مكانا أليفاً يَسرق منه أيامه ويُراكِمُها على بعض منتظراً اخضرار شجرة الزمن ونُضج ثمارها، وفي هذا الصّدد يقول الشاعر الروسي (بريسوف): «ليس هذا السجن الأخضر مقفلاً علينا دون أمل، ثمة منافذ عديدة تفضي إلى الخروج منه، ثمة بصيص ضوء، وهذا البصيص هو لحظات الوجد أو النشوة الروحية، وفي حدسنا فوق الشعور هذا إنما نُعطي إدراكاً آخر لظواهر العالم، متغلغلين عميقاً وراء القشرة الخارجية من اللب منها».
هكذا يتحول الانسان في صخب تجربته العاصفة إلى نزيلٍ يتأمل قوانين عوالمه الجديدة، وحين يترك النظر ويغُضّه عمّا وراء الأسوار ويغلق عينيه، سَيَحْدُث الرعب والتّوقُّف عن العيش والحب، كما عبّر عنه بكل صدق الشاعر (لانغستون هيوز) حين يقول: «لقد أرعبوني وهشموني/ آمالي عَصَفت بها الرياح / الصّقيع جمّدني، الشمس أَحرقتني، حاوَلوا أنْ يجعلوني أتوقف عن الضحك / أتوقف عن الحب، أتوقف عن العيش / ولكنني لم أهتم، إنني ما أزال هنا»، لقد تَعرّض لنوع من الغضب العاصِف، لأنه مَغْضوبٌ عليه من السلطات العليا وما أنْ يتقوقع في تلك الظّلمات حتى يُطْلِق قيود الجسد، ليَفتح بذلك أفواهاً ومسامات ومسالك وفتحات وأًيْدِياً توّاقة إلى الامتلاك والامتداد من ذخيرة الحياة المستلَبة، لكن ثمالاتها ما زالت مخفية عنده وصار على هذا السجين أنْ يعي دوره وقضيته التي أرعبت السجّان ونظامه، وعليه الارتكاز على رؤاه الكونية التي ستَجعله يقف متحدياً السجون وصانعيها في كل زمان
ومكان.