اللغة والدين والهويَّة الثقافيَّة

ثقافة 2022/05/21
...

  د. كريم شغيدل
 
شهدت العقود الأخيرة عناية واسعة بدراسات (الهوية) وقد تعددت المناهج والرؤى وأساليب التحليل، فلم يعد علم السياسة وحده معنياً بمفهوم الهوية وإشكالياتها، هناك علوم أخرى كعلم النفس إلى جانب علم الاجتماع والدراسات الأنثربولوجية وكذلك علم الاقتصاد، فالهوية في أبسط تعريفاتها هي المتغير المستقل، ولا يستبعد أن يكون تابعاً في حال اختيار بعض الأشخاص لهويات معينة وهم في سن الرشد بمحض إرادتهم، وللهوية ثوابتها كالعرق والجنس والثقافة، بينما تخضع بعض الهويات الاجتماعية والطبقية للمتغيرات الاقتصادية والتعليمية، وتبقى السمات العنصرية والثقافية في صدارة اهتمام الباحثين، ويقل الاهتمام بالمحددات الأخرى للهوية الاجتماعية كالانتماءات الدينية والطبقية والمتعلقة بالنوع، وربما يطال التغيير بعض الحالات الجنسية كحالات التحول التي سادت في الآونة الأخيرة، على أنَّ علم النفس يبحث في الهويات الفردية على العكس من العلوم الأخرى التي تبحث في الهويات الجمعية. 
هل اللغة كافية لأن تشكل هوية؟ قد تكون اللغة واحدة من السمات القومية، لكنها ليست كل السمات، إذ «يعد اللسان أو اللغة من أهم مقومات الثقافة، وصنَّفها البعض بأنها الثقافة بعينها، أو العرق أو الأمة بدمائها، وأساس التقاسيم الراسية والعنصرية. وهيمنت ثقافات على أخرى من خلال سطوتها اللسانية، وعدت من أهم رموز الثقافة مثلما الدين والعقائد» كما يقول الدكتور علي ثويني، وقال تعالى في محكم كتابه العزيز: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه» فقد هيمنت الديانات بلغات كتبها المقدسة على مختلف الأعراق، فاللغة إذاً متغير جمعي مشترك قد يتقنها أناس لا رابط لهم مع الجماعة التي لها هوية عرقية أو ثقافية، واللغة ذاتها متحولة إلى لهجات مناطقية بين جماعات لها هوية جمعية. وهل السمات القومية مجتمعة تشكل هوية جامعة؟ ربما، ولكن بتحفظ شديد نقول ثمة قومية جامعة للسمات المشتركة تتشظى بداخلها خصوصيات فرعية، بالمقابل هناك فكر قومي يؤدلج هوية نمطية موجهة، وليس هناك عقيدة قومية، إنما يمكن تحويل القومية إلى عقيدة عبر فكر نمطي شمولي وقسري بمهيمنات أيديولوجية وأنساق صريحة وأخرى مضمرة لا يمكن إدراك مخاطرها بسهولة، ولعل من أهم أسباب الاهتمام الواسع بالهوية «هو تفكك الأنظمة الشمولية، وشعور بعض الكيانات الخاصة بـ» الانعتاق» وتطلَّعها ليكون لها شكل من أشكال الاستقلالية والخصوصية التي تجمعها وتعطيها كيانها الخاص، ولا سيّما بعد تهميش وإلغاء ومحاولات صهر بمزاعم شتى» كما يقول عبد الحسين شعبان، وقد أدى ذلك كما هو معروف إلى حروب أهلية ومجازر تطهير عرقي وحملات قمع وإبادة وتهجير قسري وأزمات سياسية واقتصادية وغيرها، ويربط أدونيس بين الهوية والمعرفة ويجد في الغياب المعرفي العربي مقابل الحضور المعرفي الغربي غياباً للهوية بنوع من النفي والتهميش نتيجة الحضور المعرفي للآخر(ينظر: أدونيس).
أمامنا أنموذجان مشهوران هما أبو نواس وبشار بن برد، كلاهما يعد مجدداً في الشعر العربي، وكلاهما اتهم بالشعوبية بسبب العودة إلى جذوره الثقافية أو تسفيهه لبعض الثيمات الشعرية/ الثقافية التي يراها البعض سمات راسخة، مارس أبو نواس تمرّده على طرازيَّة اللغة والمقدمات الطلليَّة وأنزل القصيدة من فخامتها التركيبية وجزالة ألفاظها ومعانيها الرسمية وارتباطها الطبقي بعليَّة القوم، إلى الخمَّارات ومفردات الحياة اليومية الشعبية، من (ولقد ذكرتك والرماح نواهل/ مني وبيض الهند تقطر من دم) إلى (ربابة ربَّة البيت/ تصب الخلَّ في الزيت) وتجرؤ بشار على ثوابت ثقافية/ دينية أدى إلى اتهامه بالزندقة، فهل يمكن تجاوز هذين الشاعرين أو إبعاد شعرهما عن تاريخ الشعر العربي؟ أم أن مؤرخي الأدب يضعون شعرهما على رأس قائمة التجديد في العصر العباسي إلى جانب أبي تمّام والمتنبّي والمعرّي والبحتري وغيرهم؟ وكلاهما (أبو نواس وبشار) من أصول فارسيَّة.
اللغة مرتبطة بالفكر، والفكر بثقافة المجتمع، والهوية هي سمات ثقافية قبل أن تكون سمات فطرية، فبالفطرة نحن عرب ونتكلّم العربية وبالفطرة نحن مسلمون وبالفطرة لدينا سمات مشتركة كثيرة، ومع النظر إلى ارتباط اللغة العربية بالمقدّس الإسلامي من جهة، وارتباط ثقافة المجتمع بالإسلام من جهة ثانية، تكون الهوية من زاوية اللغة عربية إسلامية، فرواد النهضة العربية جلهم رجال دين قادمون من عمق المؤسسة الدينية، وإذا ما استثنينا بعضهم فسنجد أن أدبيات النهضة بنيت على إحياء التراث العربي الإسلامي، فماذا عن غير المسلمين؟ ألم يكن رواد الفكر القومي العربي الذي شكل حجر الزاوية للهوية العربية بمفهومها الأيديولوجي من غير المسلمين؟ ألم يكن بعض المسيحيين وحتى اليهود عرباً ويتحدثون العربية ويكتبون بها ويفكرون من خلال محمولاتها الثقافية؟ وهنا أحيل إلى ت. س. إليوت في إقراره لقضيتين متناقضتين هما: «أنَّ الدين والثقافة وجهان لشيء واحد، وأنهما شيئان مختلفان ومتقابلان»، لذلك نقول إنَّ الأقليات الدينية تكتسب ثقافة الأديان السائدة في مجتمعاتها، وإنْ اختلفت معها عقائدياً، وإذا كانت هناك هوية وطنية عراقية تحاول أن تجمع الجميع فهي لا تلغي الهويات والخصوصيات، بل تتيحها دستورياً بوصفها حقاً مشروعاً من حقوق المواطنة 
التي تسعى الأدبيات السياسية والثقافية لترسيخها.
في العراق وفي دول عربية أخرى كسورية ومصر ولبنان وحتى دول المغرب العربي، هناك الكثير من الشعراء من أصول كردية وتركية وتركمانستانية وقبطية وأمازيغية وشبك، وهناك مسيحيون وأيزيديون وصابئة، شيعة وسنة، ودروز وعلويون ونصيريون وغير ذلك. وإذا ما وقفنا عند مبرزات هوية الشعر العربي فسنجد كل الذين يكتبون بالعربية ينتمون انتماء قومياً مؤدلجاً كاملاً عندما يتعلق الأمر بتهديد يدنو من أوطانهم، هذا ما حصل إبان حركات التحرر العربي لمقارعة الاستعمار، ثم جاءت قضية فلسطين لتشكل مرجعية أو سردية كبرى لهوية الشعر العربي ونزعته القومية، منذ وعد بلفور مروراً بنكبة 1948 وكل مآسي الفلسطينيين وحروب العرب مع إسرائيل، لا سيما نكسة حزيران وبعدها حرب تشرين، إلى جانب قضايا عربية أخرى كتحرير الجزائر والعدوان الثلاثي على مصر اللتين أخذتا مساحة كبيرة من الشعر الحديث بمختلف أنماطه.