تحديث البنية السرديَّة في دفوف رابعة العدويَّة

ثقافة 2022/05/21
...

 محمد جبير
 
لا يمكن غضّ النظر، أو تجاهل وتجاوز رواية عبد الستار البيضاني «دفوف رابعة العدوية» في خضم هذا الترهّل السردي الذي تضخّه دكاكين النشر بشكل يومي، ولا يحمل لونًا أو طعمًا أو رائحة، وإنّما مجرّد ثرثرة لغوية يظنّ كاتبها أنّه يكتب شيئًا اسمه رواية، وما يُكتب بعيد عن الرواية وحتى بعيد عن الأدب.
قد لا تحفّز النصوص المجاورة أو تستفز مثلما هو الحال في صياغات البيضاني لعتبات نصوصه السابقة في القصة القصيرة أو الرواية، وذلك لما تحمله هذه العتبة من وضوح مباشر لا يثير أسئلة في ذهن المتلقّي، وقد لا يولّد القناعة في اقتناء الكتاب على الرغم من تجنيسه «رواية»، لكن يبقى ذلك المتلقّي العارف والمتابع للشأن الإبداعي في حيرة من الإقدام أو العزوف عن اقتناء النصّ، ففي حال عدم اقتنائه قد تضيع عليه فرصة الاستمتاع بنصّ سردي جديد، أو ضياع فرصة التعرّف على تجربة جديدة يخوضها الكاتب، فالكاتب الذي وضع اسمه قبل عتبة النصّ معروف لا سيما في مجال الإبداع القصصي، وإذا ما أراد أن يذهب إلى عتبة أخرى من عتبات النصوص المجاورة التي قد تذيب حيرته وتضعه في دائرة الاستقرار، فإنّه أيضًا لا يجد ضالّته في كلمة الغلاف الأخير، لأنّ تلك الكلمة تتحدّث عن الكاتب بعيدًا عن النصّ، فهي إذًا تلتقي مع أهمية الاسم بعيدًا عن الإشارة لأهمية النصّ.
لكن القارئ الجادّ يترك كلّ ذلك وراءه، ويذهب إلى جاذبية النصّ التي لا يمكن الفكاك منها، إذ تبقى رغبة التعرّف على التجربة الجديدة هي التي تقوده للإبحار في النصّ بحثًا عن تلك الدفوف للشخصية الأكثر إشكالية في تحولاته الحياتية ورحلتها من التيه إلى اليقين، هذا الأمر هو المحفّز، إذ لا يمكن للكاتب أن يعيد إنتاج الحكاية التاريخية بعد أن استهلكتها السينما العربية، وترسّخت في أذهان أجيال متعاقبة كصورة وصوت في الوقت ذاته، وهذا هو الإشكال الكبير، وهو ما يكون التفكير به سابقًا لفعل الكتابة.
لا يمكن لنا الدخول في عقل الروائي لمعرفة ما كان يريد ويخطط ويقصد من هذه العتبة، أو الاستهلال، أو المتن الحكائي، وخطاب السرد، لكنّنا نستطيع أن نقترب مما يفكّر به وما لا يفكر به من خلال القراءة الواعية للنصّ السردي، والوقوف عند منصّات البوح الداخلية في هذه السردية عبر تفكيك بنيتها الداخلية، فمن خلال هذه البنية السردية سوف نقف عند بعض العلامات التي تكشف عن دلالات العتبة النصية وخطاب تلك الدلالة كما تكشف عن مقصديات الكاتب في كتاب هذا النص وموقعه بين السرديات العراقية الحديثة.
بعد مقطع تمهيدي، يقدمه السارد، نكتشف أنّه «معتقل»، في جملة المقطع الثاني توضيح استهلالي «باختصار شديد معتقل في رأس امرأة، وتحديدًا في حجرة عينها، ولا أدري كيف حدث الأمر، هل هي خطّطت لاعتقالي أم أنا الذي وقعت في فخ العيون» «الرواية– 5»، هذه الإشارات التي تبث من قبل السارد يبعدنا كثيرًا عن موحيات العتبات النصية المجاورة لغلافَي الرواية الأول والأخير، ويدخلنا في جوّ عام يحفّز فينا مشاعر التواصل مع حكاية الاعتقال في عين الآخر، إذ قد يكون هذا النصّ حكاية حبّ، لا سيّما أنّ السارد المتكلّم بضمير الأنا سوف يأخذنا أو يقودنا ويبرمج مشاعرنا حسب ما يهواه، ويذهب بنا في مركب العشق الذي تتلاعب به العواصف والرياح والأمواج، وقد يعرضنا إلى نهر من الدموع في حكاية حبّ حزينة أو يشعرنا بالفرح والسعادة في رحلة حبّ متوازنة.
«قلت كل شيء جرى في غفلة مني ولم أشعر به الا هذا اليوم عندما انتبهت الى أنني أطلّ على الحياة، كلّ الحياة من نافذة عينيها» «ص5»، والسؤال كما مضى من الزمن حتى وصل السارد إلى «هذا اليوم»، وهل ستتغير نظرته إلى الحياة، أو أنّه يبقى ينظر إلى الحياة من خلال حجرة عينها هي وليس عينه، أي هل سيبقى تابعًا في النظرة؟ أم يجد سبيل الخلاص؟ وكيف سيكون شكل الخلاص؟ هل تقوده تلك المرأة للخلاص، أم سيتمرّد ليجد خلاصه في الخروج من معتقل العين إلى الوقوع في فخّ الحبّ.يسعى السارد من هذا الاستهلال والجملة الإيضاحية اللاحقة إلى لفت انتباهنا إلى أنّ ما سيأتي من تفاصيل في هذه الحكاية هو مغاير ومخالف لما زرع من توقّعات أو تأويلات أثناء قراءة عتبة النصّ، فما سيأتي هو حكاية حبّ أقلّ عشقًا وهيامًا، لكن من انثيالات السارد وسعيه لتوجيه أفكارنا وتصوراتنا أنّها حكاية عشق خاصّ، وقد يقرّبنا هذا الفهم أو التصوّر إلى دلالات الاسم في العتبة «رابعة العدوية»، لكنّه لم يكتب «عشق رابعة العدوية وإنما دفوف». 
بمعنى آخر، الاستلال يأخذنا إلى ما يحفّز مشاعرنا الآن، ويبعدنا عمّا كان في زمن ماض أو جرى لرابعة العدوية، نحن تعرّفنا منذ البدء على اسم رابعة العدوية مثلما تعرفنا على «قبس» الشخصية المركزية في النصّ أو المرأة المقابلة.
فهذا التقابل الأنثوي بين «رابعة وقبس» هو الذي يفسّر العلاقة التواصلية بين الماضي والحاضر، لكن هناك تشابك بينهما والتباس في الرؤيا التي يمكن أن تفصل بين المرأتين، امرأة الصورة الماضي وامرأة الحاضر الآن، إذ لم يتمكّن السارد الجالس في حجرة عين «قبس» أن يرى أو يفكّ اشتباك الرؤيا، وإنما يبقى تائهًا في بحر العين، لا ينظر إلى العالم إلا من خلال نظرتها، فهو مسحور ومجذوب ومبهور في بحر العين، ولن يتمكّن من أسره، وإنّما هو من يحب أن يكون معتقلًا في حجرة عينها، وهذا ليس بالآمر المستغرب أو المستبعد للعاشق، وإنّما طبيعي في دائرة الهيام والشوق، لكن الحكاية التي يسردها لنا السارد تختلف عمّا هي في متواليتيها الحدثية، وإنّما هي إعادة صياغة للأحداث وفق رؤية جديدة حين صحا من غفلته «هذا اليوم»، فقد كان هذا اليوم بداية اكتشاف حياة جديدة، وهو اليوم الذي بدأ فيه بسرد حكايته الجديدة ليس الحكاية المدوّنة تاريخيًا، وإنّما الحكاية المكتشفة والتي يعاد تدوينها برؤية جديدة، هي رؤيا الحاضر الآن، لكن أيّ حاضر؟ حاضر السارد أم حاضر منتج
النصّ؟