إنغبورغ باخمان.. عصر السقوط

ثقافة 2022/05/21
...

  إسكندر حبش (*)
حدث ذلك في مدينة روما، في إيطاليا. إنه يوم الجمعة في 19 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1973. كانت في عمر يناهز السابعة والأربعين عاما، حين رحلت الشاعرة النمساوية إنغبورغ باخمان، بعد احتراقها وهي حيّة. موت أفضى إلى العديد من التعليقات والأقاويل والتحاليل. هل كان الأمر انتحاراً أم حادثاً أودى بها؟، “لقد رحلت أوندين”. هذا ما كتبته الروائية الألمانية الأخرى كريستا وولف في كتابها الموسوم، “لحمة الطفولة” 
 
لتضيف عن ذلك الحادث قائلة: “يأتي خيط غامق ليمتزج بهذه اللُحمة، من المستحيل أن يُطلق سراحها. إذ ما زال من المبكر جدا أن يقبض عليها”. وبين هذا وذاك، غالبا ما كانت باخمان توصف بأنّها “الشاعرة المخلوعة” (في اللغة الألمانية). خلع لم يستمر طويلاً، إذ عرف أدب هذه الكاتبة، كيف يُعيد “ترميم” نفسه ويفرض حضوره، مثلما عادت “هذه المنفيّة الأبديّة” لتفرض نفسها على الأدب، وعلى أنّها واحدة من أكثر الكُتّاب حضوراً مثلما هي العمل الأكثر ميلا إلى “السرّية والمليء بالألغاز” (في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية). عزلة بعد إقامتها الرابعة والأخيرة، في روما، كما بعد قطع علاقتها بالكاتب ماكس فريش، بدأت باخمان بكتابة “مالينا”. 
  يومها انعزلت في الشقة التي كانت تسكنها في شارع “بوكا دي ليوني”، الواقع في العاصمة الإيطالية، حيث تمددت “أرضا فوق خارطة النمسا التي فردتها مثل شخص غريق”. كانت تعيش حياة قوامها الكحول والأدوية التي تتناولها بكثرة. في البداية، رغبت في أن يكون كتابها هذا عبارة عن سيرة ذاتية تروي فيها بعضا من هذه الحياة التي لم تكن تعرف كيف تضطلع بها، لكن سرعان ما بدّلت رأيها لترغب في أن يكون عبارة عن “بيان نسوي”. وفي النهاية، جاء الكتاب عبارة عن رواية، هي الوحيدة التي نشرتها وهي بعد على قيد الحياة. رواية غطت ببطء كبير هذا السرّ: “أريد أن أفشي سرّا: اللغة هي العقاب”. من هنا تأتي الدراستان حول أعمالها، كما هذا الكتاب الذي يصعب تصنيفه في نهاية الأمر، ليتيح لنا فرصة في إعادة تأويل واحد من أجمل الكتب التي صدرت باللغة الألمانية حول “جحيم أوشفيتز”. 
  في البداية، حاولت باخمان أن يكون مشروعها هذا بمثابة جزء أول من ثلاثية حول اختلافات طرق الموت كما ثمرة تلألؤ هذه السنوات العشر الطويلة، إلا أن “مالينا” تنفتح كما لو أنها مسرحية، إذ ثمة شخصيات هي: “إيفان، مالينا، أنا”. الزمن: “الراهن”، المكان: “فيينا”. والقصة التي تبحث عن دورانها في هذا الفضاء سرعان ما تسير باتجاه الدراما. هناك رجلان دخلا حياة امرأة. هجرها الأول بينما الثاني كتب مكانها كتابا لم تكتبه مطلقا. إنها الحرب المرعبة التي تستمرّ ولكن بطريقة أخرى، أيّ ما زلنا نرى هذا الميل إلى “الإبادة” والإلغاء الذي يستمر بنسج حكاياتـه ومناخاته بين النساء والرجال وكأننا أمام مسرح فاشي أصبح مسرحا خاصا. إلا أن الفضاء المسرحي سرعان ما يخرج عن “واقعيته”، والزمن يترسّب وهوية “أنا” تتمزق وتتحطم. على “أنا” أن لا “تمتزج في قلب كل شيء”. فـ “أنا” تبكي، و”أنا” تحلم بالكوابيس، كما تنظر “أنا” إلى بقعة الماء العائدة إلى بحيرة طفولتها، كما تحلم “أنا” بغرف الغاز، وبأن أباً ينتعل أحذية جلدية يغتصبها، يقتلها، وأن آخرين يمنعونها من الكتابة، يسرقون جملها منها، حتى أنهم ينزعون صوتها منها.
 إزاء ذلك، كان لا بدّ لمالينا من أن تضبط أعصابها وأن تتحلّى بالصبر، أن تكون أحيانا شرسة وتهدد الآخرين، أما “أنا” فلا تجد بدّا عند هذا الحدّ إلى أن تدخل “في عصر السقوط” من خلال حالات أشبه بالحالات الطفوليَّة، فتغادر فيينا، إذ تبدأ بالتزلج فوق منحدرات الكلمات، لتتبع خطوط جمل كتبت في الثلج ولتختفي في حفرة موجودة في قلب الكتاب. تظهر لنا “مالينا” وكأنّها مسجونة في قلب أسطورة امرأة لم يكن لها أيّ وجود في أيّ يوم من الأيام، أسطورة تطلق عليها اسم “حكاية أسرار الأميرة كاغران”، من هنا استطاعت “أنا” أخيرا أن تهب نفسها بين ذراعيّ الرجل الغريب الذي يرتدي معطفا أسود والذي: “وضع الوردة على صدرها مثلما توضع فوق جثة ميت، ليفرش في النهاية معطفه عليهما”.
 عند صدور “مالينا” في ألمانيا عام 1971 حددّت انغبورغ باخمان بدقة بأن كتبت “سيرة ذاتية متخيلة”. لكن باخمان هنا، كما في قصائدها وقصصها وسردياتها ومقالاتها، تعرف كيف تنسج دائما من قلب الرعب عبارة جديدة، طريّة، نديّة، تقول: “أؤمن حقا بشيء ما، أسميه بالقول: مجيء الغد”. جملة نستعيرها ممّا قالته في مشهد من فيلم تمّ تصويره معها قبل موتها بأشهر قليلة. بالتأكيد يشكل كتاب مالينا مكانا يقدم لنا شروحات مفصلة عن أبيها الذي كان عضواً في “النواة القاسية” للحزب النازي في مدينة كورنثيا النمساوية (المقاطعة التي ولد فيها بيتر هندكه في ما بعد) عن كاتب عرّاها في الكثير من النصوص التي كتبها، عن انتحار شاعر أحبته أكثر ممّا أحبت حياتها بأسرها، عن هذه الهجرة (أو المنفى) من مسقط الرأس، وهي الهجرة التي أرقتها طيلة حياتها، ولكن “مالينا” هو أيضا كتاب شخص يرفض أن يكتب بلغة القتلة. إنه كتاب عن “جهنم” الذي عاشته، والذي لا يشرح شيئا، ولا يحكم على أيّ شيء، والذي لا يروي أي شيء، والذي يعرف كيف يسكت أمام كل شيء، ثمة مقاطع من حياة تنتظم منسابة لتخبرنا عن خلفية الديكور الذي عاشته والذي أودى بها إلى كلّ هذا. ثمة كتل من الكلمات تزهر تماما على طريقة أشعار باول تسيلان، ثمة حوارات أيضا تنبثق من الكتاب وكأنّها تأتي لتذكرنا بالألعاب اللغوية الحاضرة في كتابات فيتغينشتاين. في النهاية، لا بدّ من أن نجد أن “مالينا” ليست سوى رواية كبيرة حول الحداثة النمساويّة. إنّها مكان هذه الحفرة اللغوية التي تتسع باستمرار “تنزلق المدينة نحو الامّحاء، لكن ثمة تأملات متوحّدة تولد من ذلك، كما ثمة مونولوغات تائهة وضالة في الليل”. لقد كتبت الفريده يلينيك وتوماس برنهارد الكثير، منذ ذلك الوقت، عن كل ما يتوجب عليهما إزاء هذا النشيد الذي كتبته هذه الساحرة المدهشة، والذي خلفته وراءها.
(*) كاتب من لبنان