أنقرة تأتي أولاً

قضايا عربية ودولية 2022/05/22
...

 هارون كارشيك
 ترجمة: أنيس الصفار   
منذ ان غزت روسيا أوكرانيا أخذ المشهد الأمني الأوروبي يتغير بسرعة، فقد تصاعد الانفاق الدفاعي في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، كما دبت في جوهر حلف الناتو حيوية جديدة، وروسيا اليوم لم تعد فقط احدى أشد الدول تعرضاً للعقوبات بل الدولة التي تعامل معاملة المنبوذ على نطاق واسع في العالم.
 
منذ أن غزت روسيا أوكرانيا أخذ المشهد الأمني الأوروبي يتغير بسرعة، فقد تصاعد الإنفاق الدفاعي في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، كما دبت في جوهر حلف الناتو حيوية جديدة، وروسيا اليوم لم تعد فقط إحدى أشد الدول تعرضاً للعقوبات، بل الدولة التي تعامل معاملة المنبوذ على نطاق واسع في العالم.
كان الاختيار بين الجانبين سهلاً إلى حد ما بالنسبة لكثير من الدول الأوروبية، عدا صربيا والمجر، نظراً لعدم وجود علاقات تكفي لفرض نفسها على الموقف. أما تركيا فقد كانت في موقف أكثر حرجاً بكثير، وقد زاد الأمر تعقيداً موقع تركيا الجغرافي وارتباطاتها مع روسيا وأوكرانيا في قطاعات التجارة والطاقة والجانب العسكري. 
كانت تركيا حتى الآن متماهية في الغالب مع دعم باقي حلفائها في الناتو لأوكرانيا، فعدا عن تزويدها أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة قامت تركيا أيضاً بإغلاق مضيق البوسفور أمام السفن الحربية الروسية كما أغلقت أجواءها أمام الطائرات الحربية الروسية المتوجهة إلى سوريا، لكنها أحجمت عن فرض عقوبات على روسيا وكان السبب أساساً في ذلك هو أن تلك العقوبات لم تكن صادرة عن الأمم المتحدة. برغم هذا حافظت تركيا على احترام الجانبين لها وبقيت الدولة الوحيدة التي استطاعت عقد لقاء مباشر بين وزيري الخارجية الأوكراني والروسي منذ بداية الحرب، بل إنها استضافت جولة مفاوضات بين الوفدين الأوكراني والروسي.
أدى إغلاق تركيا مضيق البوسفور تدريجياً، ومن دون قصد، إلى تسليط ضغوط كبيرة على مخططات روسيا الجيوسياسية الأوسع، وكذلك على أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول، وهو الأسطول المكلّف بتعزيز قوات روسيا وحلفائها في سوريا وليبيا.
لأنقرة مصالح اقتصادية وأمنية وجيوسياسية لا تخفى في الصراع الجاري، بيد أنها دأبت بحرص على عدم إحراق الجسور بينها وبين روسيا لتلفي نفسها بالنتيجة متورطة في مشكلات اقتصادية معقدة. فروسيا شريك تجاري حيوي يزود تركيا بـ45 بالمئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي و17 بالمئة من نفطها بالإضافة إلى نسبة عملاقة تبلغ 70 بالمئة من احتياجاتها إلى الحنطة، وهي مادة مستوردة ذات أولوية في زمن تتصاعد فيه أسعار الخبز. كذلك تعد روسيا أكبر مصدر للسائحين الوافدين إلى تركيا، وبالتالي هي أكبر مصدر للعملة الصعبة من خلال سائحيها الذين بلغ تعدادهم 4,7 ملايين سائح يمثلون 19 بالمئة من إجمالي عدد السائحين في تركيا خلال العام 2021. كذلك يقوم عملاق الطاقة الروسي "روساتوم" بإنشاء أول محطة للطاقة النووية في تركيا مخطط لها أن تبدأ العمل في 2023. لتلك الأسباب كلها لا يمكن لتركيا أن تخسر مثل هذا الشريك الحيوي في وقت فقدت فيه الليرة التركية 47 بالمئة من قيمتها خلال أقل من عام، بينما تصاعد التضخم إلى أعلى مستوى له على مدى 20 عاماً. برغم تذبذب العلاقة بين تركيا وروسيا، بما في ذلك إسقاط تركيا طائرة حربية روسية في العام 2015، علينا أن نتذكر أن المحاولة الانقلابية في تموز 2016 هي التي قرّبت الشقة بين الزعماء في البلدين، فبينما كان الرئيس "باراك أوباما"، ومعه سائر نظرائه الأوروبيين، يقف متفرجاً مكتوف اليدين، بادر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى الاتصال فوراً بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان عارضاً عليه كل أنواع الدعم التي أمكنه توفيرها.
أوكرانيا هي الأخرى لا تقل أهمية بالنسبة لتركيا، وقد جعل هذا الرئيس التركي يشجب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، كما أن أردوغان من أرسخ المؤيدين لتتار القرم الذين عانوا الأمرين تحت وطأة الحكم الروسي. كذلك كانت التجارة والاستثمارات في طور التصاعد بين الدولتين، فحتى العام 2021 كانت تركيا هي أكبر مستثمر أجنبي في أوكرانيا بمبالغ قاربت 4,5 مليارات دولار من خلال أكثر من 700 شركة تركية تعمل هناك. وبرغم رفض المسؤولين الأتراك الكشف عن تفاصيل مبيعاتهم من الطائرات المسيرة إلى أوكرانيا تفيد تقديرات مستقلة بأن أوكرانيا ربما تكون قد اشترت ما بين عشرين وخمسين طائرة مسيرة مسلحة من نوع "بيرقدار تي بي2" من صناعة تركية بالإضافة إلى طرادات "ميلجيم" فئة آدا. تمثل أوكرانيا بالنسبة لتركيا أيضاً مسرحاً لاختبار منتجاتها العسكرية في ظروف المعركة الحقيقية، الأمر الذي رفع أسعار تلك المنتجات وسمعتها بدرجة كبيرة في الأسواق العالمية. نظراً للتوتر الذي يشوب علاقاتها بشركائها في حلف الناتو تسعى تركيا أيضاً إلى تأمين وضعها من خلال رفع مستوى تعاونها العسكري الفني مع أوكرانيا، ففي العام الماضي مثلاً وافقت شركة "موتور سيش" (وهي مؤسسة أوكرانية متخصصة بصناعة محركات الطائرات والمروحيات والتوربينات الغازية) على تزويد شركة الصناعات الدفاعية التركية "بيكار" بثلاثين محركاً توربينياً لاستخدامها في طائراتها "أكينتشي" المتخصصة بالضرب من ارتفاعات عالية. مثل هذا التعاون، الذي جمع بين محركات أوكرانية معتمدة وتكنولوجيا تركية متقدمة، أطلق تركيا إلى الجوزاء في سوق المعدات الدفاعية العالمية.
هذا الدعم التركي لأوكرانيا استثار هواجس موسكو، وفي آذار 2021 خرج وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" بتصريح هادر قال فيه: "ننصح أصحابنا الأتراك بشدّة بأن يحللوا الموقف بدقة والتوقف عن صب الوقود على نزعة كييف العسكرية."
برزت موسكو كثقل موازنة في نظر أنقرة عندما بدأ فك الارتباط الستراتيجي بواشنطن في العام 2014 بسبب دعم واشنطن للمتمردين الكرد الماركسيين. وبصفتها قوة صاعدة متوسطة الحجم تحتل موقعاً محادداً للبلقان والبحر المتوسط والشرق الأوسط والقوقاز انتهجت تركيا سياسة خارجية متعددة الوجوه، ولو أنها متعارضة في أغلب الأحيان مع حلفائها في الناتو. أما الآن، وإذ نشبت الحرب في أوكرانيا، فقد راح أردوغان يسعى إلى مثل ما سعى إليه من قبل سلفه أبان الحرب العالمية الثانية عصمت إنونو، وهو إبقاء تركيا خارج الصراع مع محاولة توسيع حيز مناورته إلى أقصى حد ممكن مع رسم إطار لاستقلال بلده ستراتيجياً. بيد أن غزو روسيا لأوكرانيا، وموقفها المتصلب في أوروبا الشرقية والبحر الأسود، أسفرا عن رد فعل صاعق من جانب الناتو. يشير "سابان كارداس" في كتاباته فيقول: "لقد انكشف الغموض الستراتيجي الذي كان يكتنف مخططات موسكو، وبذا بات التحدي الرئيس الذي يواجه استقلال تركيا الستراتيجي الآن هو ابتداع طرق تمكنها من التعايش مع روسيا الجديدة."يحتل البحر الأسود، الذي كان يطلق عليه ذات يوم اسم "البحيرة العثمانية" نظراً لسيادة تلك الإمبراطورية عليه، مكانة مهمة في البنية النفسية التركية، بيد أن ما تفرضه الجغرافية السياسية وموازين القوى في أوروبا الشرقية ومنطقة البحر الأسود آخذ بالتغير جذرياً. معنى هذا أن التحدي الرئيس أمام الاستقلال الستراتيجي لتركيا سوف يتمثل بابتكار طرق للتعايش مع دولة روسية ذات نزعة حربية وتطلع أكثر من أي وقت مضى لإثبات وجودها، وهذه الدولة ترى في البحر الأسود نقطة نفوذها إلى منطقة البحر المتوسط التي كان دورها فيها مستمراً في التنامي بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. لقد برهنت تركيا على شدّة اهتمامها بالتعاون مع كييف في جانب السياسات دون الإقليمية لأجل معادلة الكفة مع روسيا في مجالات مثل الردع البحري والأمن الغذائي والتعاون العسكري والطاقة. برغم هذا تدرك تركيا جيداً أن لروسيا قيمة جيوستراتيجية على المسرح الدولي بالنسبة لتركيا تفوق بكثير ما لأوكرانيا.
كما رأينا في حالتي سوريا والعراق أن تركيا غالباً ما تكون الجانب الأشد معاناة كلما تزعزع الاستقرار في منطقة مجاورة. بالتالي يمثّل الحفاظ على التعاطي البنّاء مع قوة عظمى على مسار الانحدار، وفي مرحلة زمنية شديدة القلق والاضطراب، تحدياً هائلاً لكنه برغم ذلك السبيل الناجع الوحيد للمضي قدماً. لذا فإن المرجح هو أن تواصل تركيا اتباع سياسة خارجية براغماتية لا هي في صف أوكرانيا ولا في صف روسيا .. ولكنها في صف تركيا كلياً.
 
عن مجلة "ذي ناشنال إنتريست"