صورة الإنسان في عذابه

ثقافة 2022/05/22
...

 حميد المختار
 
يقول غاستون باشلار: «الموت هو أولاً وقبل كل شيء صورة وسيظل كذلك صورة»، وكذلك الحياة في أذهاننا تبدأ بصورة كما صوّرَها المفكّر العراقي الشهيد (عزيز السيد جاسم) وهو يفتح عينيه في قرية (الغازية) في الناصرية على صورة تقليدية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام معلّقة على الحائط، ألوانها ساخنة وثمة مَهابَة مميزة لوجه الإمام تحيطه هالة من نور، وهي من الصور الشائعة المنتشرة في وسط وجنوب العراق والآتية من إيران..
يقول عزيز السيد جاسم: فلم يكن مُمْكناً أنْ يكون البيت من دون الصورة، هذا ما اعتدنا عليه حينذاك، ثم تتحول المشاهد والحيوات منذ الافتتاح السيمفوني لحياة المفكر من خلال صورة ليعود إلى الصورة ذاتها بعد ثلاثين سنة ورحلة طويلة من الفكر والثقافة والكتابة والشعر والمعاناة الذهنية، هذه الصورة مصوّرة عن لوحة لعلي بن أبي طالب في متحف اللوفر بباريس، وهي كما يقول عزيز صورة أقرب إلى حقيقة علي من سواها وبخاصة من تلك الصورة الأولى..
إذن ماذا يمكن أنْ تعطينا الصورة؟، وهل هي وسيط لنقل اللحظة في زمن مجتزأ؟، أم أنها تحمل سلطة خاصة بها؟، لأنّها في الظاهر مجرد وسيط وفي جوهرها قوة تتجاوز الوسيط وتهيمن على المَشاهد والشخصيات.. ولنا نحن كبشر مع الصورة حيوات ومواقف ورؤى وعلامات ونُذُر ابتداءً من صُوَر كبار العائلة الجد والأم والأب ثم الأبناء والأحفاد..
في زمن مضى قرَّرْتُ أنْ أعمل مصوراً جوالاً في شارع أبي نواس، حَمَلتُ كاميرتي وذهبت، ورأيت من بعيد أسرة مكونة من أب يرتدي العقال والغترة وأم وطفلين، تهيأ لي أنني لمحت الأب وهو يراني من بعيد وحين رأى الكاميرا صار يعدّل من غترته وهِندامه، وحين اقتربتُ طلب مني أنْ أصوّرهم، كانت تجربة جديدة تحمل في طياتها نشاطاً غير مألوف بالنسبة لخبرتي في الكتابة والقراءة، أنا هنا أصوّر الزمن وأحتجزه في متحف غير مرئي إلّا في عقول شخوص الصورة، وأقول هذه الكلمات متذكراً قولاً لـ (رولان بارت) يقول: «تم تصويري على دراية مني، بَيْد أني ما أنْ أشعر أنني مُراقب من قِبَل العدسة حتى تلقائياً يتغيّر كل شيء، أتشكّل منشغلاً باتخاذ وضع معين أمام الكاميرا، أضع لنفسي في الحال جسداً آخر، أتحوّل سلفاً إلى صورة، أشعر أنّ الصورة تُوْجِد جسدي أو تُميتَه وِفقاً لإرادتها الخاصة»..
من هنا كنت أقول مُؤيداً كلام بارت بامتلاك الصورة سُلطة خطيرة تؤسس أحكامها الخاصة.
وإذا أردنا السؤال: مِنْ أين تستمد الصورة سُلطتها وقوّتها إنْ لم تكن من العين الباصرة، العين المراقِبَة الساهرة، العابرة لتقاطع الأزمان، العين العاشقة والأخرى الشريرة، والعين التي تحمل سراً ورمزاً وقوة حضور، لأنّ العين تقول ما تَهاب الكلمات التعبير عنه..
والنظرة هي نظام رمزي يختلف من ثقافة إلى أخرى، تقول إحدى شخصيات نجيب محفوظ: «نظر اليها نظرة لو تحوّلت إلى كلمات لوقعت تحت طائلة القانون»، فالعين هي أسُّ الصورة المنبثقة من محجرها المضيء، وهي الدافع السري لقوة سطوتها على الناس..
كلنا تحتوينا الصور سواءً الصور الفوتوغرافية أو صور البلاغة والمعاني والكتابات الإبداعية الفنية، صورة مجازية وأخرى ملموسة تنقلنا من مكان إلى آخر ومن وعي إلى لا وعي ومن واقع إلى حلم..
يقول عامر بدر حسون في مقدمة كتابه (كتاب العراق 1200 صورة قديمة): «مِن على الرصيف جمعت وطني صورة.. صورة»، وهذا ينقلنا إلى عالم الكتابة والروايات لنجد أنّ السرد يحتفي كثيراً بالصورة انطلاقاً من (أوسكار وايلد وروايته صورة دوريان جراي) ودوريان جراي فتى وسيم وله مكانة اجتماعية مرموقة لكنه مغرور وحين رسمه صديقه عبَّر جراي عن رغبته في البقاء بنفس جماله وشباب صورته، تتحقق رغبته، فيرتكب جراي الأخطاء وفي كل خطأ تتشوه صورته شيئا فشيئا، ثم تتوالى الأعمال السردية الكبيرة التي أفادت كثيراً من الصورة مثل رواية (صورة جماعية مع سيدة لهاينريش بول)، ورواية (صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس)، ورواية (صورة سيدة لهنري جيمس)، ورواية (صورة عتيقة لإيزابيل الليندي)، وللعراقيين نصيب أيضاً فقد كتب الراحل الكبير محمود عبد الوهاب روايته القصيرة (سيرة بحجم الكف) عن حكاية صورة تجمع ثلاث شخصيات، يبدأ الكاتب في البحث عن مصائرها والمكان الذي صُورت فيه، والصورة هنا هي التي يتحدث عبْرَها الروائي عن سيرة أخيه وأصدقائه وما آلت إليه مصائرهم منذ زمن التقاطها، ثم يكتب لؤي حمزة عباس رواية (مدينة الصور) ويبدو أنّ البصرة تنظر إلى صورها بحميمية غريبة فنجد أنّ الكاتب الكبير محمد خضير يلتقط الصور الفوتوغرافية في أماكن نَسِيَتها العين البشرية المنشغلة بوسائل عيشها، لكن عين محمد خضير باصرة للماضي وواعية للحاضر ودقيقة في رصد وتوثيق حيوات المكان المتقلبة من حال إلى حال.
ومِن هنا أقول إنّ الصورة هي ما وراء المرئي وهي التي تمنح لوُجود اللحظة علّتها بحيث تغدو مرجع نفسها كما يقول ريجيس دوبريه، إننا إزاء غرفة مضيئة ترمز إلى عالم سائل يتوقف لحظة ضغطنا على زر
الوجود.