الفهم مشكلة الوجود

ثقافة 2022/05/22
...

 حازم رعد 
 
يقول افلاطون «الفيلسوف هو من يشاهد كل زمان وكل وجود»، والمعنى واضح أن يشاهده بأداة الفهم ومن خلال الخبرة المتوفرة أي بأسلوب مرآتي يعكس أوجه المعرفة الكامنة في كل زمان ومكان، وعند كل فيلسوف سعى في إنتاج جزء من عملية الفهم.
إشكاليات العالم متعددة وكثيرة وألغازه محيّرة لدرجة تجعل الإنسان في ذهول وتدهشه عند معاينتها، وهذه الدهشة والحيرة مصدر تفكّره فيه وابتكار أفكار «إجابات» عنه، والإنسان بوصفه لغزاً يكون مصدراً مهماً للتفلسف فالآلهة تحب الألغاز وينفرها ما هو جلي كما جاء في الاوباتيشاد
الهنديّة.  
ولكن أكبر تلك الإشكاليات وأكثر الألغاز تعقيدا هو الإنسان، فهو بمثابة الشخصية المفهوميّة في قصة الوجود وتدور حوله سيناريوهات الحياة بفصولها ومضامينها وتداعياتها، التأمل في ذلك يستدعينا أن نفهم أن نستوعب الهدف والغاية وليس أن نكتفي بمبررات سطحية لا تروي عطش النفس بالتعرّف والاستيعاب.
هذا الفهم يشكل مشكلة الإنسان في العالم وما زالت مجهودات الإنسانية في سعي حثيث لإنتاج فهم عن العالم والحياة والطريقة المناسبة للتصرّف.
فنحن كبشر إنّما نقرأ ونكتب ونتأمّل ونبحث وندرس ونفعل ألوانا مختلفة من النشاط، ونتصرّف ونمارس بعمق ونجادل وندخل في حوار كبير مع النفس والآخرين من العالم، كل ذلك من أجل تحقيق شيء واحد، هو أن نفهم وأن نعزز عملية «المعرفة» لدينا كبشر.
والفهم الذي يُعرّف على أنّه لونٌ من الإدراك وليس إدراكا ساذجا بل إدراك مقرون بإرادة حقيقية لفعل المسؤولية، يفرض علينا بادئ الأمر أن تتوضح أمامنا المفاهيم كبداية تيسّر لنا سبل التعرّف والاستكشاف وتوضيح المفاهيم من اشتغالات الفلسفة فقد عرفت عند اشلك أنها (اي الفلسفة نشاط توضيحي) فالكشف عن المفاهيم وايضاحها مقدمة للفهم والمعرفة الموضوعية وتجعلنا أكثر حكمة في اصدار القرارات والأحكام.
وبقاء المفاهيم على إبهامها لا يزيد إلا في ضمور المعنى وتنكره أمام الأذهان، ومن ثم لن نصل إلى فهم حقيقي، وربما نستبق الأحكام ونتعجّل ونقع في الأخطاء، في محاولة لتيسير نشاط الفهم يفترض الشعار «فكّر مجدداً» الذي يقدمه الفيلسوف المعاصر بيتر سلوتردايك إلى استدعاءات للقراءة بطريقة جديدة «قراءة النص وقراءة الأحداث والأشياء» هو يعتقد ان كل قراءة جديدة سوف تنتج لنا فهماً آخر عن الحياة وعن الفهم ذاته عن الحياة وعن شكل الممارسة ومعالجة الفوضى السائدة بوحي من الاسترجاعات الماضوية بطرق جديدة.
هذا معناهُ أنَّ الماضي يتواجد في الحاضر بشكل قوي ولكن بأسلوب جديد، هذه القراءة هي التي ستبرز فلسفة جديدة حاكية عن راهنها، وهنا يمكن استعارة قول سلوتر دايك نفسه (يمكن لدراسة هذا الصدع القديم أن تلهمنا فهم الصدع الحالي)، فالحفر في تراث الماضي يوفر لنا فهما للآليَّة والمنهجن ويوضح لنا خريطة حركة التجربة التي سبقت وكذلك يقدم لنا خبرة جاهزة. 
وليس أمامنا إلا فهمها بشكل جيد من خلال قراءة فاحصة واعية، وأن نعصرنها بشروطنا الراهنة ومقتضيات الحاضر واستكناه ما يمكنه مقاربة المعيش وما يحدث، إذاً، فعملية الفهم مرتبطة بمعرفة التاريخ وفهمه، وكذلك هي مرتبطة بطريقة إسقاط تلك الخبرة على الحاضر وان نتناولها بأسلوب يمكننا من الإفادة والانتفاع.
تنبري أولى مراحل فهم العالم والوجود من فهم الذات فبحسب قول سقراط (يا أيّها الإنسان اعرفْ نفسَكَ) بوصفه الصورة المعكوسة عن عالم يشكل نواة إدراكه وسبر أغواره واستكناه معانيه، فهو الكون المصغّر كما في عبارة ابن عربي، ومتابعته بالنظر والتفكّر توفر أساسات معرفة كليّة عمّا هو أكبر مساحة وأعمق معنى، وإن لن نفهم ذواتنا ونحدد مكانتنا سلفاً في هذا الوجود فستغيب عنا معرفة الآخرين وسيختفي من أمامنا فهم الوجود، وستتعمّق الفجوة بين الإنسان وعالمه ومحيطه، وستغيب عنا المسؤولية الملقاة على عاتقنا في خضم الجهل المفترض مع غياب الفهم واللا معرفة. 
ومن السذاجة بمكان أن نزعم أنّ عملية الفهم هي تلك التأمّلات الطارئة والقراءة السطحيّة التي يلتقطها من مباشرة الواقع ومن التعجّل بتناول النصوص وتقييم الأحداث بأسلوب مقتضب ومجتزل، وإنّما هو كيفية عميقة في النظر للأشياء وحفر معرفي في طبقات الأحداث والواقع وتدقيق مشدد في الكشف عن المعنى أو المعاني المتخفية في ثنايا الطبيعة والمجتمع ومتون النصوص على حدٍّ سواء، الفهم مجموعة إجابات مستقاة بالتدبّر الكثيف وامعان النظر والمراجعة المستمرة. 
ولكي يكون «الفهم» مستوفياً لشرط المعرفة علينا افتراض إجابات وليس واحدة بمعنى أن لا نتعكّز على وحدة الحقيقة واختزالها في فكرة وإجابة واحدة فاتجاه يقينية المعرفة وتمامية الحقيقة يوقع في أسر الدوغمائية ويحبس الإنسان في الخلف…