(الجيل الأدبي) والتعامل الكيفي في النقد العراقي

ثقافة 2022/05/22
...

 د. نادية هناوي 
 
وقد اتخذت مفردة الجيل بعدا نقديا في أوروبا أبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مع ظهور رؤى نظرية تسعى إلى تصنيف المبدعين عامة والأدباء خاصة في فصائل ولكل فصيل ملامحه المشتركة وسياقاته وأنماطه التي تمثل في كليتها خصوصية الجيل ومن ينضوون في خانته. ومنها نظرية سانت بيف الاجتماعية التي صنّفت الأجيال الأدبيّة على وفق سنة الميلاد مع التركيز على ملامح مشتركة لكل فرد من أفراد الجيل الواحد مما يتعلق بالصفات الجسدية والمشاعر والحياة الماديّة والفكريّة والأسريّة.
وفي ستينيات القرن العشرين قفزت مفردة الجيل قفزة نوعيّة حين ارتبط مفهوم الجيل الأدبي بانتفاضات وثورات قادها الطلبة حصلت في أوروبا والولايات المتحدة والصين، وغدا النظر إلى الجيل الأدبي متنوعا في اتجاهاته واصطلاحاته؛ فمن المنظور البايولوجي القائم على التحقيب الجماعي العرقي والمنظور الثقافي القائم على التقارب الفكري وتجانس الرؤى إلى المنظور النخبوي، وهناك أيضا المنظور الاجتماعي، وأخيرا المنظور الكوزموبوليتي القائم على الجمع بين الأفراد الذين تجمعهم مشتركات كونيّة وتضامنات حضاريّة هي نتاج العولمة والانفتاح الكوني، وبالطبع تكون للترجمة هنا مساهمة فاعلة في تشكيل الجيل ومعاينة ما فيه من مشتركات وتضامنات.  
ولقد وظّف نقدنا العراقي المعاصر منذ منتصف القرن العشرين وإلى اليوم مفردة الجيل لكن كيفما اتفق وبلا استناد مفاهيمي إلى واحدٍ من المنظورات أعلاه، بل هو لم يأخذ نظريّة سانت بيف بنظر الاعتبار مع أن دارسي التاريخ الأدبي اعتمدوا عليها في تصنيف الأدباء العرب القدماء وتقسيم التاريخ إلى عصور ومراحل وبحسب مشتركات تجعل فئة ما من الأدباء جيلا وحدها.
والكيفيّة الاتفاقيّة التي اتبعها النقد العراقي وما زال يتبعها في التعامل مع مفردة الجيل لا يعنيها التمايز الإبداعي في تصنيف أدباء القرن العشرين، بل يعنيها العامل الزمني كضابط يصنّف الأدباء على وفقه إلى أجيال، وحساب كل جيل عقد من السنين (جيل الثلاثينيات، جيل الأربعينيات، جيل الخمسينيات.. وتنتهي عند جيل التسعينيات) أما مسألة التفاوت في العطاء الإبداعي عند أدباء كل جيل فلم تعطَ الأهمية المطلوبة. ولقد بدا خطأ هذا التصور واضحاً وخطيراً مع رحيل الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر. 
ولأنّ الكيفيّة الاتفاقيّة عند النقاد هي زمنيّة/ عقديّة، اجتمع في فهم مفردة الجيل شيئان غير واقعيين: الأول، أن المشتركات جماعية، يتساوى فيها أدباء الجيل الواحد فلا تمايز إبداعيا محددا بينهم، والثاني، أنَّ العقد الواحد كافٍ لاختمار التجارب ومعرفة خصائصها نظرا وممارسة.  
أما لماذا تواضع النقاد ومؤرخو الأدب المعاصر على هذه الكيفيّة فلأنّها سهلة ولا تقتضي نقديّا أيّة مجهودات علميّة ذات أقيسة ومواضعات. وإذا كان أدباء جيل معين هم أصحاب المبادرة في هذه الكيفيّة الاتفاقيّة فإنّ المفارقة هي في انسياق النقد الأكاديمي إلى الكيفيّة نفسها وبكسل بحثي وبلا منهجيّة أو منظومة مفاهيميّة تحدد لمفهوم الجيل صيغة علمية ما.
والأدهى من ذلك كله أنَّ مفردة الجيل دخلت إلى نقدنا من باب الدعابة، فقد قيل ذات يوم في حق شعراء علا صوتهم في العقد السابع من القرن العشرين أنهم جيل الستينيات، فتلقفها بعضهم واستعملها بطارئية ودعائية وتعممت من بعد ذلك النظرة العقدية للجيل على النقد العراقي كله. هكذا أضيفت إلى الكيفيّة الاتفاقيّة مسألة التلقائيّة في تبني الفهم العقدي للجيل ليكون الأمر مخصوصا بنقدنا العراقي بينما خلا النقد العربي من هذا الفهم العشوائي لمفردة الجيل لأنّ المفاهيم النقديّة ـ في النقد المصري مثلاـ نشأت في أحضان المؤسسة الاكاديميّة بدءا من الرعيل الأول الذي مثله طه حسين وامتدادا إلى النقاد اللاحقين مثل محمد غنيمي هلال وعبد القادر القط وعبد المحسن طه بدر وجابر عصفور وغيرهم.
وعراقيّاً كان لأدباء العقد السابع/ الستيني وبعض نقاده إسهام مهم في إشاعة المعنى العقدي (عشر سنين) للجيل 1960 ـ 1969 من خلال ما نشروه من مقالات وبيانات ونقود وما كتبوه فيما بعد من شهادات وحوارات وما ألفوه من كتب، وأعانتهم على ذلك الظروف الاستثنائية التي شهدها العالم آنذاك، فضلا عما شهدته أجواء العراق من اضطراب وعنف حاميي الوطيس. هكذا تهيّأت الساحة لشعراء الستينيات لأن يعلنوا عن أنفسهم ومن جايلهم أو زامنهم في الوسط الأدبي أنهم (جيل ستيني). وبمرور الزمن شاع الفهم العقدي في نقدنا وصارت الأجيال الأدبيّة موزعة بحسب عقود القرن العشرين. أما الأولوية أو المركزية فظلت لـ (لجيل الستيني) بوصفه جيلا ألمعيّا بجماعيّة تشتمل على القاص والشاعر والتشكيلي والصحفي والفنان فلا تتفرّد تجربة معينة من دون غيرها أو يبرز اسم وحده، بل قد يهمل اسم ذاك الذي يتميّز بالفرديّة وقد تأخذ تجربة أدبيّة بجريرة تجربة أو تجارب أخرى أدنى منها وأقل، ناهيك عن غمط حق أولئك الأدباء الذين تقع تجاربهم وسطا ما بين نهاية العقد السادس/ الخمسيني وبداية العقد السابع/ الستيني. وقد أطلق د. عبد الإله أحمد عليهم اسم الجيل الضائع تمثلا بتسمية مقاربة أطلقت على أدباء أوروبيين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. 
أما ما يحمله الجيل العقدي من دلالة فنيّة فإنّها لا تؤهله لأن يكون رديفا للظاهرة أو الموجة أو الحركة بيد أن هذا الترادف حصل بشكل جزافي، فلبست مفردة الجيل حُلّة فنيّة وتبلور عن (الجيل العقدي) بعد حين من الزمن تعابير مختلفة عوملت كمفاهيم نقديّة مثل (جيل ما بعد الستينيات وجيل ما بعد الريادة وجيل ما بعد الرواد وجيل ما بعد التسعينيات وأجيال ما بعد الرواد وأجيال ما بعد السبعينيات وأجيال ما بعد التسعينيات) جنبا إلى جنب استعمال اشتقاق (التجييل) وبهذا التراكم في التعابير، غدا الفهم العقدي لمعنى الجيل الأدبي في نقدنا العراقي ملتبسا ومتناقضا إن لم نقل خاطئا. 
وعلى الرغم من أن هناك من رفض هذا الفهم أو ظل مشككا أو متذبذبا بين الرفض والقبول، فإن الفهم اتسع وشاع خصوصا على مستوى الأبحاث الأكاديميّة والرسائل الجامعيّة حتى بدا فيها طبيعيا الاعتقاد أن التجييل العقدي ظاهرة أدبيّة حقيقيّة تستند إلى وجود عطاء إبداعي بمقاييس معتادة، بينما هو في الحقيقة ليس كذلك لكونه مبتور السنين، مشوّها ودعائيّا بالصورة الخداعة التي يعكسها أمر هذا التمايز الجيلي المزعوم. 
وبعيدا عمّا سُمِّي بالجيل الستيني وعقديّة الفهم للإبداع الأدبي، فإنَّ موضوعة الأجيال تظلّ مهمّة لأنَّ فيها تعرف التجارب الشاخصة والمميزة وتحدد المراحل الأدبيّة وما فيها من تحوّلات فنيّة وتطورات فكريّة ولكن برؤية نظريّة واضحة وعلميّة بعيدة عن الدعائيّة
والجزافيّة.