الكتابة على الجسد

ثقافة 2022/05/23
...

 ناجح المعموري
 
الحديث عن الجسد، يعني المرور الضروري على الحضارة والشعوب التي عرفت التقدم والتصورات الجديدة، وعرفت الاهتمام به -الجسد- أي كان له حضور في الأسطورة والعقائد والطقوس. كما برزت للجسد تمظهرات واضحة في البعدين الجمالي والفني. ويدل ذلك على أن الاهتمام بالجسد ظاهرة متمركزة، تذهب لها الشعوب وتزاولها، وهي مدركة للدور الذي تتميز به. فضلاً عن المجال الذي يشغله. وهنا تكون له خاصيات بارزة، ومتميزة. كل هذا تبدّى على الجسد بصفات، أسهمت بتجوهرهِ، وساعدت هذه كلها بصعود صفاته التي منحته فرصة التواجد في الفضاء العام، حيث الحضور المهم للأفراد والجماعات.
التمثيلات الصوريّة لجسد الأنثى، ظاهرة عرفها العراق القديم وتميز بها. عن غيره من بلدان الشرق. والصور، الأعمال النحتية البارزة التي تمركزت فيها صور الأنثى/ الأم العارية الدالة على تعلق واضح بما يومئ للخصوبة وأبرز مثال على ذلك. الإعلان المتباهي في إبراز الصدر والنهدين والكشف عن الجسد كله. 
امرأة طويلة رشيقة الجسد، ضمت نهديها بكفيها، وكأنّها تلمّ ثمرتين نادرتين متباهية بهما والتفَّ سواران كل على معصم كل يد. واقفة باتزان وإجلال وكأنّها أميرة أو ملكة، ذات شعر ممشط ومتناسق، ملموم على رأسها أو منسرح بعضه على كتفيها مع قلادة مدورة حول رقبتها. وأم تنس عقدة مدورة من شعرها يطل على واجهة رأسها الذي يمثل المقدس، الطاهر، والنظيف. ومما زاد الجمال الظاهر على جسدها التمام وركيها وانضمام فخذيها وساقيها وقدميها معاً، بحيث تحولت وقفتها أنموذجاً لتمثيلات الآلهة الإغريقية والرومانية. وبان التأثير الهلنستي واضحا في هذا الأنموذج الرفيع.
يعمل الجسد البشري بشكل بليغ: إنه رمز في ذاته، ترسم العرية الشكل الإنساني على أكمل وجه بتصوير جسد يصور أيضاً علاقة المخفي والظاهر. وإذا ما تعرى الجسد، فإنه يبقى شكلاً يتعلق جماله بالمظهر، بالأنموذج المجسم شكل يخفي النواقص السرية للحياة. وحدها العرية تصنع من الجسد أنموذجاً، يرى ب . جوليان: أن التقاء الكشف «وهي الصورة» وتصور الأنموذج النظري «البحث عن الأنموذج المثال الأعلى» يشرح تفوق العرية في الفن. لأن العرية ليست موضوع فن، إنها شكل فني نوعي يتفق والمثالية والجوهر، والمتصور الميتافيزيقي. 
تنجح العرية [الصورة الملتقطة للجسد] بشكل جيد على توصيف مضبوط وينسجم مع تفاصيل الجسد، بحيث يتمظهر من خلال العرية مكتملاً وبدقة. لذا ذهب المعجم إلى أن العرية محققة لانسجام كلي عن تفاصيل الجسد المخفية والظاهرة. وقد ألمح ميرلوبونتي إلى الجسد الذي هو دائماً حقيقة معروفة، إنه مرئي ولا مرئي. 
إنَّ ثنائيَّة المخفي والظاهر، تعطي هذه الثنائية مزدوجة رمزية، يتسع لها الجسد وينفتح وكأنه المثال الإنساني الخلاق، ورفيع المستوى. ونستطيع الذهاب إلى غياب الآخر ضمن العرية، أن التمثل المزدوج للمذكر والأنثى، فإنّهما يعطيان للأنموذج تجوهرا أنموذجيا. لكنه إذا اتضح وحده، عري الأنثى أو المذكر فإن كل منهما، يبدو وكأنه جسد معطل تماماً. أي أنه ميت، حتى وإن اتضح عمداً بدقة عميقة، «كأنه عرية من الحياة. جسد عار هو الآن جثة، لذا بالإمكان أن تكون العرية صدرتها. ففي المسرح أو السينما، يظهر أمامنا راقداً فإنه محروم من المظهر ومدركاً من دون أي كلام، فإنه يعطي صورة الموت».  
العرية صورة مخفية، صامتة، محايدة، لا حياة فيها، إنها لا تشير لأنموذج تميزه الحياة بتفاصيلها، وتحرمه من أنموذجه الآدمي، بعد التعطل الذي أصابها، وصار أصل العرية طرفياً، لا بل ملغي، لأنه خسر كينونته.
إنَّ التمثل الدقيق لجسد الأنثى العارية، إذا كانت عارية أو مرسومة أو مصورة فوتوغرافياً يتجنب معظم الوقت ذكر العرية المشؤومة بين الجسد والجثة، لكن فضيحة العري لا تتفجّر إلّا عندما تنكشف هذه العرية المكبوتة. لأنّه أنموذج فني، حازت جمالاً فريداً، لكنه وحيد وكأنه مغترب، فاقد ثنائيته التي تعطي للجسد طاقته حاضرة، المتوترة وكأنّها متهيئة للاتصال. وظل هذا الجسد المنسجم جداً مهيمنا على الحضور الميتافيزيقي والذي جعل من رؤية ديكارت مناسبة جيدة لتقديم توضيح أو كشف أنطولوجي. ومثلما قال المفكر ميرلوبونتي: تصبح عملية ارتداء الثياب عملية زينة، وايضاً عمل حشمة، وتكشف عن موقف جديد، تجاه الذات وتجاه الغير. بشر وحدهم يرون أنهن عراة. ليس الجسد عارياً إلا بالنسبة للغير أو بوساطة نظرة تراه كالآخر للأنا.  ويقتضي العري الذي نسبه للجسد شكلاً قديماً من الشعور بالذات يقسم الكائن البشري الى متفرج متلصص والة جسد موضوع، مفضلاً في الجسد الموضوع المرئي بدلاً من لحمه على المستوى الأناسي، يفترض العري إنشاء الملابس، إذ بوسع الجسد أن يكون مرتدياً أو خالعاً لباسه/ الستر/ الحجاب الخاص بالجسد أحد المظاهر البكرية التي توصلت اليه الأنثى وهي في فردوسها الذي ارتضى وجود جسدين عاريين، إنّها لعبة مهارية جداً. لأنّ كل منهما -حواء/ آدم - كان يرى الآخر وتعرّف على المعلن، والأنثى رأت الفالوس مكشوفاً، متدلياً. 
لقد قال ليفي شتراوس بـ -الرجل العاري- بأنّ العراة يرى أحدهم الآخر. ولكن هل رأى آدم/ الكائن الأول عري حواء وتعرّف على الانكشاف الذي حفّزت عناصر الجسد الأنثوي وأغوته واتصل بها بعد ذلك الانكشاف توصل آدم إلى المعرفة التي أعلنت عن ضرورة سيادة الحجاب وممارسة الستر وهذا ما أعلن عنه سفر 
التكوين. 
من هنا نستطيع الإشارة إلى أن اللباس جزء تكميلي لما يشير اليه الجسد، مع عناصر خارجية أخرى، مثل الزينة والحلي الوشم. لكن المهم الموازي بأهميته الجسد هو الثياب المانحة للجسد ستراً يجعل منه منظوراً إليه مخفياً وظاهراً لأن الملبس حجاب صياني وحامٍ.
الأجساد العارية لا تريد عرضاً أمام عيون الآخرين. تمد حالة العري إحساسا بالاتفاق مع الذات وبالانطباع حالة مترجرجة من عدم الانفصال الذي ينزع فيه أي لباس أو زينة أو تبرج من العالم ــ كما لو أن العري يتبادل الجسد مع العالم الذي يجمعه.
نستطيع التلميح إلى أن الجسد ضمن خصائصه مع الثياب والمكملات هو تنوعات من أجل أن يكون مؤهلاً ليتخذ دوراً في الفعالية ضمن أفعال البناء والتكوين الاجتماعي، فضلاً عن الابتكار والتطوير المهم في الحياة. 
ونتمكن من القول بأن حضارة العراق القديم تميزت على أكثر من مجال، وبرزت أهم خصائص الجسد والتعبير عنه في وسائل مختلفة على مستويات مثل النحت والرسم، وهذا أكثر وضوحاً مع تصاعد الرموز الأبرز وسط توظيفات الإبداع في النحت وتمثيلات الجسد الأنثوي والذكري، وهما يعنيان نوعاً من القدسيَّة الوثنيَّة المحدثة.  لم يعد العري يطردنا من فردوس، إنّه إعادة اكتشاف الحالة الأصلية التكافلية كعدم الانفصال.. قال لورس: بهذه الحالة الأصلية من الكمال العري الخلاعي الذي يقدم جسداً للنظر بأبعاد أية تلقائية، يرفض مجانسته، كما أنت، وما ترغبين، إنّها الخلاعيَّة، النظر إليك في المرايا، يتأملون فيها بركاتك كحيوان، عريان بحيث تمتلكهم في سريرتك، تجعلني منهم شيئاً فكرياً. اهتمام الجسد بواسطة الفن لا يلغي حضوره في الأدب والأسطورة. بل يتمركز كثيراً ويكشف عن اهتمام استثنائي، وأهم ما برز في البنية الذهنية الأسطورية في سومر وأكد، وما برز واضحاً في بابل القديمة وأعني به التمثيلات الصورية لجسد الأنثى العارية، وأهم ما أعلنت عنه هو أن الإنسان ليس شيئاً آخر غير الجسد، ويفضي هذا إلى الكشف الآخر، استنفدنا من آراء نيتشه وتوصلنا إلى أن العقل مطرود، ومهمّش، لا بل مستغل مع انحطاط دور الجسد وتعميق وظائفه، بما في ذلك مزاولاته للجسد، واتضح هذا جلياً بالذوبان الكلي وسط المعبد وتفعيل جسد الأنثى وتكريسه للاستهلاك وهذا ما كشفت عنه التمثيلات التصويرية.