حسب الشيخ جعفر قصيدة أكثر من حياة

ثقافة 2022/05/24
...

 عادل الصويري
خلق الفضاءات النصيَّة التي تمنح النص الشعري أكثر من حياة، والمعنى الذي يتجاوز اللفظ عبر إعادة تشكيل العلاقات؛ ميزتان مهمتان في نصوص الشاعر الراحل حسب الشيخ جعفر، ويمكن القول إن القصيدة (الحسبيَّة) – إذا جاز الوصف – في كثافتها ودلالات عباراتها؛ لا تمنح نفسها بسهولة للمتلقي، قبل أن يدخل في لذة تأويلية، تقوده إليها حالة تفاعلية تنشطر ما بين اللامرئي والمتواري من المعنى والواضح منه.
 
إنَّ قراءة نصوص حسب الشيخ جعفر، تُخرج الفعلَ القرائيَّ من حَيِّزِهِ التفسيريِّ إلى فضاءات التأويل بعد «صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله» بحسب الجرجاني. هذه الفضاءات تردم أي هوة للمعنى داخل الجملة الشعرية. بل يكون التأويلُ ملكاً للمُؤوِّل الذي يختلف في نظرته للنص عن نظرة مؤوِّل ثانٍ؛ وذلك لتباين المرجعيات الثقافية والمعرفية والنفسية بين قارئٍ وآخر.
لكن المتفق عليه أن حسب الشيخ جعفر في قصيدته يخلق توتراً غريباً يجعلك ترى تجانسَ المتناقضاتِ، وانفصالَ المتجانساتِ، واللامحسوسَ المُصاغَ من المحسوس. وهذا الوصف ينسجم إلى حدٍّ ما مع أدونيس حين يرى أنَّ «سِرَّ الشعريةِ هو أن تظلَّ دائماً كلاماً ضد الكلام، لكي تقدر أن تُسمّي العالم والأشياء بأسماء جديدة، والشعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها مفلتة من حدود حروفها».
والتجاوز والإفلات بحسب الرؤية الأدونيسية يظهران في اشتغالات حسب الشيخ جعفر الشعرية. إنها فعلاً عملية رؤية الكائنات، التي تُسيلُ اختفاءها المستترَ في صورتِها الظاهرة.
«تُرى نرتدي مرة ثانيةْ 
ظلالَ الصنوبرِ في الطُرُقِ الخاليةْ؟
يمرُّ الشتاءُ، وينحدرُ الصيفُ عند البُحيراتِ خفقةُ عُشْبهْ
وينحدرُ الصيفُ ثوباً خفيفاً على امرأةٍ ملءَ زندي رطبهْ
وينحدرُ الصيفُ رغوةَ شمبانيا
ترى نرتدي مرة ثانيةْ
رذاذَ الصنوبرِ في الطرقِ الخاليةْ»
في هذا المقطع من قصيدته (ممثل واحد في قاعة فارغة) يُشْعِرُنا وكأنَّه في حُلمٍ رغم وحدته في فراغ القاعة كما جاء في عتبته النصيّة الأولى، وذلك من خلال تداخل وتعدد مشاهد انحدار الصيف مرة عند البحيرات، وأخرى على امرأةٍ رأيناها عاريةً رغم أنه لم يُصرِّح بذلك مكتفياً بدلالة الثوب المنسدل كحال للصيف، ومرة ثالثة
كرغوة شمبانيا.
وقد أسهب الرومانتيكيون في الحديث عن العلاقة بين الكتابة والرؤيا، إذ تأتي الأفكار بصورة مغايرة تحتاج إلى يقظة، وإدراك العلاقات بين الأشياء المكتوبة رؤيوياً  وفهمها. وإذا كانت لغة الحُلم شبيهة بالهيروغليفية عند محمد غنيمي هلال؛ فإنَّ العلامات التي يقدمها حسب الشيخ جعفر في قصيدته تنتمي إلى القسمين الرئيسين في الكتابة الهيروغليفية وهما: العلامات الصوتية phonograms، والعلامات التصويرية ideograms. وقد يتداخل النوعان في نص واحد بحيث نسمع علامة الصوت في الصورة، ونشاهد علامة الصورة في الصوت كما في هذا المقطع من قصيدته (التحوّل):
“كُلَّ مساءٍ أسمعُ صوتَ قطارٍ مفجوع،
أتَرَقَّبُها، لي منها ظِلٌّ في قدحٍ مملوءٍ حتى النصفِ،
وتهبطُ سيدةٌ، تتوقفُ باحثةً،
مَرَّت عرباتُ الحِمْلِ، وغادرَ آخِرُ مُنتظِرٍ،
وأنا أتشبَّثُ بالغسقِ المتراجع”
جعلنا معه نسمعُ صوت القطار، وأنفاس الظل في القدح، وصوت خطى السيدة لحظة هبوطها، بينما شاهدنا بدهشة كبيرة تراجع الغسق وهو متشبثٌ به. 
ومن البديهيِّ القول إن الصورة الشعرية من أساسيات نقل أو ترجمة التجربة الشعرية. فالإيحاء بالصورة يجعل القارئ في سياحة تأملية، ومتعة كشفية؛ كونها تشكيلاً إبداعياً مفتوحاً.
والصورة الشعرية في نصوص حسب الشيخ جعفر تتجاوز الاستخدامات البلاغيّة؛ لأنه ينتمي لتلك الموجة الشعرية التي ترى في الاشتغال المجازي إغناءً للشعرية الحديثة بوصف الصورة “رؤيا كلية” تشمل الرموز والأساطير وغيرها. وذلك يعني أن الصورة عند حسب تتوافق مع اعتبارها من عناصر التكوين النفسي للتجربة الشعرية، وهذا ما قال به عبد القادر الجرجاني. لذلك نراه اعتمد على هذه الخصيصة في إنتاج نصوصه على مستوى الشكل بحيث تتكامل عناصر النص فيها تصويراً وتخيلاً، شكلاً ودلالة.
“فَرَّ ذاكَ الطائرُ الأخضرُ في البرديِّ غاب،
عبثاً تبحثُ في القشِّ المغطّى بالضباب
لا تُقَلِّبْ طرفكَ الحائرَ، لا تسفحْ دموعَكْ
إنَّها الريحُ، وقد أطفأت الريحُ شموعَكْ
لا تدقّ البابَ، فالبابُ جدارْ
ليس خلفَ البابِ إلّا ورقُ الأمسِ وأكفانُ الغبار/ قصيدة القش”.
وهنا نلحظ الاهتمام المجازي في بناء الصورة الشعرية التي يدمج الشاعر فيها ذاته بموضوعه حين يرى الباب جداراً، وما خلفه أوراق ماضية وأكفان لغبار.
الصورة الشعرية عند حسب الشيخ جعفر هي طريقة للتفكير والتعبير معاً، الأمر الذي يجعل قصيدته تحتفل بحيواتها
المتعددة.