تقانات القصة القصيرة جداً

ثقافة 2022/05/24
...

 كمال عبد الرحمن
 
قبل الحديث عن الـ (ق. ق. ج)، لا بد من الدخول في  تعريف ثلاثة مصطلحات سردية متشابهة متقاربة، وهي (القصة أو القصة القصيرة) و(الأقصوصة) و(القصة القصيرة جدا)، يقول «رينيه غودن» في موضع (إنَّ القصة أساسا هي تعبير عن حكاية)، ويقول في موضع آخر (هي أحدوثة)، ويقول الدكتور الطاهر أحمد مكي (إنَّ القصة حكاية أدبية، تدرك لتقص، قصيرة نسبياً، ذات خطة بسيطة، وحدث محدد، حول جانب من الحياة، لا في واقعها العادي والمنطقي، وإنما طبقا لنظرة مثالية ورمزية، لا تنمّي أحداثاً وبيئات وشخوصاً، وإنما توجز في لحظة واحدة حدثا ذا معنى كبير)، وتجاوزنا اختصاراً ما قاله «والبول» و «روبرت شولز» و»ولسن ثورنلي» و»ادوارد فورستر» و» أنريكي اندرسون» وآخرون في تعريف القصة وشرحها. 
و(الأقصوصة) يقول عنها محمد مينو (مؤخراً استقر مصطلح القصة القصيرة جدا في مواجهة مصطلح الأقصوصة الذي كان بدوره يختلط مع مصطلح القصة القصيرة جدا)، أما مصطلح (ق. ق. ج)، فقد كثر الكلام حوله حتى وصل الأمر إلى بعض النقاد بأن يقول القصة القصيرة جداً هي أقرب إلى الشعر من القصة.  وخير من يعرّف مصطلحها هو الناقد «أروني» حين يقول (هي حدث خاطف، لبوسه لغة شعريّة مرهفة، وعنصره الدهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة، وهي قص مختزل وامض، يحول عناصر القصة من شخصيات وأحداث وزمان ومكان إلى مجرد أطياف، ويستمدُّ مشروعيته من أشكال القص القديم كالنادرة والطرفة والنكتة). أما تقانات الـ (ق. ق. ج) فقد أختلف حولها الباحثون والنقاد كما اختلفوا، حول التفريق بين الأقصوصة والقصة القصيرة جداً هل هما  جنس سردي واحد نتج عن تعالق جنسين سرديين، أم أن كلا منهما جنس مستقل له بنياته وقواعده وعناصره البنائية وتقاناته المنفصلة.وتشكّل التّقنية محفّزًا فعّالًا في خصوصية الحبكة والسرد، فهي مضمون الدّال والمدلول اللذين يتواشجان لتنامي الحدث القصصي، وقد تحتاج القصة إلى تقنية أو أكثر، فتضمر إحداها لخدمة أخرى وتدخل في تضاعيفها.ونظراً لاختلاف آراء النقاد والباحثين حول تقانات القصة القصيرة جداً، فقد جمعناها بشكل توافقي يرضي الاطراف جميعا وهي: (البداية والحكائية واللغة والحدث والإيماض والجملة الفعلية والتكثيف والمفارقة والتناص والمجاز والقفلة)، ولعل هناك من يسمي بعض هذه التقانات بـ (عناصر بناء القصة القصيرة جداً)، لكن الغالبية اتفقت على تسمية هذه العناصر بالتقانات، والمتابع سيرى هناك بعض المبالغة في هذه التقانات، فـ (الحكائية والحدث) لهما معنيان متقاربان، ولكن على أية حال، هذا يثبت أن فن الـ (ق. ق. ج) يحتاج إلى انتباه شديد وتوخي الحذر عند كتابة القصة القصيرة جداً، فهي جنس أدبي ذو حساسيَّة عالية جداً، وأي خطأ في شروط كتابتها، يخرجها إلى جنس أدبي آخر، قد يضعف من قيمتها الإبداعيَّة. 
والتكثيف: هو عنصر جوهري من عناصر القصة القصيرة جدا، يلجأ اليه القاص، لـ (يضمن لقصّته غنائيّة صريحة وقصراً شديداً، فلا مجال في هذا الفن للترادف، ولا مكان للهذر والوصف، فإذا ما احتاجت القصة القصيرة جداً إلى التعبير عن تطور الحدث وتقدمه رصدته كليمات قليلة ذات إيقاع وإيحاء)، وكأنَّ هذه القصة تبني الحدث كلمة كلمة بناء محكما، لا فضل فيه ولا زيادة، لأنها انزاحت عن النظام المألوف للقصة القصيرة الى نظام آخر يقوم على الاقتصاد في مختلف العناصر بشكل عام وعلى التكثيف الشعري والدرامي بشكل خاص. والمفارقة من التقانات التي تفعّل القصة القصيرة جداً، وتشكل أحد أسسها الجمالية، إذ تحول التداولي الحياتي الى معطى لغوي ذي حمولات متزاحمة وتقترح اقتفاء حساسية الخطاب الإنساني (في واقع متخم بالمفارقات اليوميَّة الساخرة ومجالات الحياة المختلفة، فهي توفر لنا فرصة التقاط المفارقات ورسم صورة كاريكاتيرية سريعة نافذة لحالة ما).ولا تكون القصة قصة بلا حدث، ولا بدَّ أن تنطوي على خصائص، تعمل كضمانة لمغايرة بقية الأنواع القصصيَّة، والحدث الذي تقدمه القصة القصيرة جداً (لا يتيح المجال لتقديمه عبر الوسائل الأخرى، كالحوارات الطويلة أو المنولوجات أو المذكرات، وإنَّما يتجه رأسا ليواجه طرفه المضاد)، فهو بذلك يختلف في طريقة سرده، وتركيبه، وأنساق بنائه، ويتجه أكثر نحو البساطة ويغادر التعقيد، فإذا كان الحدث يشتمل على ثلاثة عناصر هي (العرض، والنمو، والعنصر المسرحي) فإنَّ القصة القصيرة جداً كما يرى شجاع العاني (تقتصر على عرض الحدث، وتفتقر إلى النمو والدرامية، واذا ما جاوزت الأول إلى الثاني، فإنّها قد لا تتجاوز الثالث، وإلا خرجت عن صنفها لآخر هو القصة أو السرد القصير)، ويقول توماس ي. بيرنز في طبيعة الحدث ما يشبه هذا الكلام (لتبدأ القصة القصيرة جداً قريبة إلى الذروة ما أمكن). لذلك يعد الحدث عصب الحياة في النص السردي بأنواعه كافة، فهو المكان والزمان والشخصية وكل حركة في النص مصدرها الحدث.