مورينيا لباسكال صوما: «عقد اجتماعي أنثويّ»

ثقافة 2022/05/24
...

 نبيل مملوك*
انطلقت باسكال صوما في روايتها الأخيرة مورينيا الصادرة عن دار سما (طبعة أولى 2022)، من فكر المجتمع الأنثوي أو بشكل أدق من فكرة تغيير المجتمع بأنامل أنثويَّة فراحت على مدى 176 صفحة تشكل هذا المجتمع انطلاقا من شخصيات وبنائها ورؤيتها إلى العالم معرّجة بأسلوب لغوي سلس نحو اللاوعي والسلوكيات المبنيّة على الفعل من جهة و ردة الفعل من جهة أخرى، مورينيا المدينة المبتكرة جعلتها صوما تقع بين منطقين، الأول طغيان الرجل والسكوت عن الجريمة أو التمرّد حتى لو ألغت المرأة ونصف المجتمع الآخر.
 
المرأة القائدة والظواهر الاجتماعيَّة 
بحسب غريماس فإنَّ الشخصيات تتوزع بين عامل الذات وعامل الموضوع والعوامل المساعدة والمعاكسة، إلّا أنَّ صوما قد تخطت هذه التصنيفات واتّجهت بشكل حداثيّ أدقّ جاعلة الشخصيات متساوية في ما بينها تمثيليًّا رغم تفاوتها الطبقيّ، متحكمةً بأطباعها وسلوكيّاتها مانعة عنها حق التعبير مفضلة الإيجاز السرديّ على الانطباعيّة والتعبيريّة التي كانت ستزيد من التشويق، فبثينة المرأة المتحرّرة التي تجاوز عمرها البيولوجي عمر الصبايا بقيت - رغم صرامتها وقسوتها وتبوّئها المركز القيادي وتذويبها للوعي الجماهيري المتمثل بأهل مورينيا - تحتفظ بحريّتها وأنوثتها لكنها أنوثة مجبولة بالكيد والمشاكسة والاستبداد «كانوا يتوافدون إليها ومعهم الهدايا.. كان كل شيء يصلها، مقابل أن تفتح فاهها» (ص.10)، حتى أنّ هذه الشخصيّة فضلا عن كونها قائدة وتتمتع بحسّ قياديّ لكنها كانت تقودنا إلى ظاهر ومسائل أنوثيّة إشكاليّات إجتماعيّة و»إيروتيكيّة» نأخذ مثلاً: مسألة قص الشعر وارتباطها بالكآبة عند المرأة وقد تمرّدت الكاتبة عليها من خلال رفض بثينة لتمادي هذه الظاهرة وانتشارها «كانت تنصح النساء المكتئبات بعدم تفجير أنابيب الكراهية في شعورهنّ»( ص. 11)، لكن إذا أردنا أن نتخيّل بثينة تعبّر عن نفسها من خلال ضمير الذات «أنا» هل كانت ستنصح حكمًا بالكفّ عن هذه العادة وسواها؟ ألم يكن من المتوقّع أن تقول ما لا تفعله بثينة؟، والأهم الأهم ألم يكن من الضروري أن تكون بثينة الشخصيّة «الملك» في هذه الرواية هي الساردة وهي العالمة بكل ما حدث ويحدث؟، إنّ اعتماد صاحبة «فاصلة» على الصوت الروائي الواحد والرؤية السرديّة من الخلف قد كسر عامل المناجاة وجعل المتن الحكائي مبني على أحداث متوازية غير متقاطعة في ما بينها مما جعل بثنية تتحوّل من شخصية مركزيّة ونقطة ارتكاز point focal  إلى خط يقودنا إلى شخصيّات أخرى وظاهرة أخرى عرفتنا على عالم الرجال في مورينيا بدءًا من اعتصامها وصومها عن “غسل الدماغ”، “إن أهل المدينة لا يستحقّون أيّ شيء، وأنّهم سفهاء كأهاليهم: السّفاهة تنتقل بالدّم”. (ص.13). 
إذن إنطلاقًا من شخصيّة بثنية الآمرة المتحكّمة بحال سكّان مورينيا من خلال مزاجها واستبدادها، وهو ما يرمز بشكل أو بآخر إلى تقييد عاطفة الجماهير واتباعها لقائدها مهما كانت قراراته وآية على ذلك ما فعله د.البرتو في سبيل تلقي نصيحة من بثينة “أخبري سيّدتك بثينة أن الفستان القصير معي  وسيعجبها.. يا للكرم.. الدكتور البخيل أصبح مهرّجاً كريماً”(ص.25). إذن كانت المرأة هي الشخصية القياديّة منذ مطلع الرواية وكانت بثينة هي خير متعاطٍ مع الظواهر الاجتماعية وردود الفعل الجماهريّة.
 
مجتمع مورينيا بين النسويّة والأنثويّة 
لعلَّ النسويَّة هي أكثر الحركات إشكاليّة من خلال بنودها الفكريّة وتيّاراتها ومساراتها الاجتماعيّة إلّا أن مجتمع مورينيا كان مجتمعاً أنثويًّا بطابع ثوريّ انتقاميّ، فشهدنا حملة متطرّفة ثأريّة من الرجال الذين انتقموا عبثاً من نسائهم، وهذه المشهديّة قد تجلّت من خلال شخصيّة “بو علي” الشخصيّة التي اختارتها صوما لتكون من خلال أفعالها ردًّا على الذكوريّة المقيتة والسّامة “كانت تجلس فتاة أطلقت على نفسها اسم بو علي، وتماهت معه..” (ص.38 )، وقد اختارتها الكاتبة بقناع ذكوريّ “حتّى أصبحت تتمتّع بقوّة بدنيّة لافتة، وتحرص على مشية صبيانيّة وشعر قصير غير مصفّف”(ص.38 ). قد يذهب البعض من خلال هذه الملامح الأوليّة لشخصيات مورينيا نحو تصنيف هذا المجتمع بمجتمع نسويّ إلا أنّه أبعد من ذلك جوهرًا وأقربه شكلاً، فمن خلال تمظهر الشخصيات وبنائها وتحولاتها المضمرة جنحت صوما نحو الأنثويّة أو تأنيث المجتمع من خلال ردات فعل وموجات ثأر متتاليّة من رجالٍ يعنّفون نساءهم أو يبخلون عليهم، ولعلّ شخصيّة “بو علي” شخصيّة تصحبها دلالات سيميائيّة تأخذنا نحو المرأة التي هدّها الفساد المجتمعيّ والأزمات الاقتصاديّة والمعيشيّة التي يعيشها لبنان أو أي مجتمع شرقيّ “قرّرت نورا أن تصير بو علي، رجل الأسرة الكئيبة..” (ص.40 )، “في اليوم التالي، عند السابعة مساء تقريبًا، دخلت الى غرفتها في ذاك البيت الفقير” (ص. 45)، هذا التركيز المتعمّد على الجانب الأنثوي من المجتمع ترجم من خلال بُعديْن أساسيين الأول تراجيدي تمثل بالجرائم التي ارتكبتها “بو علي” بحق الفقر والذكوريّة المتجسِّدة برجل أو أكثر “لا أحد كان ليصدّق أنّ رجلاً ما قد يفكّر بالاعتداء على بو علي، وستضطر إلى كبحه” (ص.47 )، أي أننا أمام مجتمع لا يعترف بالاغتصاب أو الإعتداء، وقد ساعد بسهولة بو علي على تغييب هويتها الأنثويّة، لم يكن طرح صوما عبثًا فإذن فإن شخصيّة بو علي هي شخصية المرأة التي تتخلى عن هويّتها الجندريّة قسراً في سبيل البقاء على قيد الحياة، لكن الكاتبة قد وقعت في فخ العاطفة حين أوهمتنا أن جملة من النساء وبلكنة لا تخلو من التعميم يرغبن بالثأر والانتقام الدمويّ من “الرجال الوحوش” قد حوّلت بدورها المرأة الى وحش منتقم بدلاً من تحويلها إلى منتقمة بالقانون والمنطق، فكان لنا أن نقرأ في مورينيا حفلة إعدام لرجال ارتكبوا الكبيرة والصغيرة تجاه أي امرأة، مما أوقع الكاتبة في نفق النقد “هل على العنف أن يجابه بالعنف؟ هل القوة تجابه بالقوة؟ هل بناء المجتمع المتحضّر المبني على المناصفة يستدعي هذا الدمّ”، «تخرج المذيعة الناعمة لتعلن أن لا مهرب من القصاص وأن البرد لا يسامح المخطئين.. « (ص.89 )، «علّقت المشانق على حبال غسيل. وكان على كل امرأة أن تختار مشنقة مناسبة..» (ص.94 )، والمسألة لم تتوقف عن هذا الثأر الوحشي الذي أتى نتيجة تنكيل ذكوريّ ممنهج بل بالانتشاء والاحتفاء بالحريّة المعبّدة طرقاتها بالدّم»، في صباح اليوم التالي تنهض السيّدات بنشاط هائل، ويتوجّهن مباشرة إلى الشرفات» (ص.101).
إذن جسَّدت الكاتبة بدءًا من العنف والثأر بعد المعاناة مجتمع مورينيا على أنه مجتمع أنثويّ لا يضمن أي أشكال السلام بقدر ما يضمن كباش غرائزي بين رجل يصارع على الطغيان وامرأة تصارع على الحريّة.
يرى سارتر الجحيم على أنه الآخرون، والمرأة في مورينيا ترى الجحيم وفقًا لصوما هو الآخر المتمثل بالرجل الشرس والطاغي، الأمر الذي بنى مورينيا على قاعدة إلغائية إمّا أن تكون مورينيا مدينة مبنية على تحاصص السلام والمهادنة تجاه المرأة أو تكون مذبحة لتسطو الأنثى على النصف الآخر من المجتمع. 
*(كاتب من لبنان)