عاصم عبد الأمير.. كونشرتو منفرد لعازف أصيل

ثقافة 2022/05/24
...

 د.نصير جابر
  
حينما نواجه لوحة تشكيليّة فتتسمّرُ أقدامنا أمامها وَتلتهمُ عيوننا المستفهمة مساحتها المفروشة بالزيت والخطوط والتفاصيل والزوايا، وقبل كلّ ذلك بالفكر المكثّف والمختزل إلى علامات ودوال ورموز، فمن المفترض أنّنا نواجه ذواتنا المتعرّجة الخائفة الرخوة وهي تستعرضُ آمالها العصيَّة على التلف مثلما نواجه أحلامنا وهي تدور في حلقات مفرغة، ونواجه كذلك (لغة) جديدة تمطّ حروفها الكثيرة على قماش اللوحة بلكنة (ما) وبلهجة (ما) لتخاطبنا بصوت مرئي من لون حذر، شفيف، وضربات رشيقة من فرشاة واعية وإيقاع هارموني فاتن ومن ثمّ نعي أنّنا الآن رهن اللوحة، ورهن المدى الأخّاذ الذي نُثِر بالفن والفكر النبيل الذي يُغيّر (أحوالنا) - أو من المفترض هذا- لنخرج من مقام اللوحة إلى مقام آخر ونحن في مرحلة جديدة من التبدّل نحو إنسانيَّة أعمق وتمدّن أكثر وحبّ جارف للحياة ولكلّ ما هو أصيل
وجميل.
هكذا شعرت وأنا أرى أعمال عاصم عبد الأمير الفنان والأكاديمي المعروف المولود في الدغارة في الديوانية العام 1954 في أسرة هاجسها الثقافة والمعرفة، إذ نشأ مع أخوة كانت القراءة ولعهم الأوّل والأخير، أحدهم سيكون الناقد المسرحي المعروف الدكتور باسم الأعسم والآخر قاص وباحث ومترجم جاد هو الأستاذ راسم، ولتكون هذه البذرة الواعية خطوة مهمة في احتراف الفن ومن ثمّ التخصّص فيه ليحصل على الماجستير عام 1982، وبعدها على الدكتوراه وليكتب فيه طروحات معمّقة وجادة تغني المشهد التشكيلي العراقي وتؤسّس لحركيّة فعّالة فيه كما فعل في كتابه: (جواد سليم أجنحة الأثر.. ريادة أم ريادات).
عاصم مرَّ ببوابات الفن ومدارسه كلّها بحكم دراسته وتنوع اشتغالاته وحركيّة عقله الفني فاقترب من الانطباعيّة تارة ومن التجريد تارة أخرى ومن التعبيريّة مرات ومرات، وبعدها اختطّ لنفسه طريقاً منفرداً ولغة خاصّة ميزته في خضمّ المشهد التشكيلي المتنوع الذي زامل فيه أسماء كبيرة، شكّل مع ثلاثة منهم جماعة الأربعة: (محمد صبري، فاخر محمد، حسن عبود) التي كان لها بصمة مهمّة وواضحة يعرفها كلّ متتبّع لتاريخ الفن التشكيلي العراقي المعاصر، فقد اتسمت هذه الجماعة بجرأة كبيرة في عراق الثمانينيات المرعب فمنذ معرضها الأوّل عام 1981، وحتى انفراط عقدها كانت علامة تؤشر بجديّة لخصب وعمق هذ الفن، واستطاعت مواجهة الاستلاب والقمع والدكتاتورية برؤيا ثاقبة، إذ قالت الكثير بصريّا وأرّخت لعقد مدمّر قُطّع فيه الإنسان في سنوات الحرب الهائلة، فأسعفه الفن ورمّم ما أمكن منه ليواصل حياته في مجتمع مثخن بالأوجاع الأزليَّة.   
عبد الأمير يسامر قماش اللوحة قبل أن تمتدَّ يده إلى اللون، فهناك دراسة واثقة لكلّ مليمتر فيها فـ (الحيز) على القماش هو (حيز) مقترح لجملة لونيَّة مفيدة تبدأ بـ (مبتدأ)، إذ يتشكّل اللون بمزيج ما بين لونين أو أكثر هما سرّه الشخصي، وما بين الخامات الأخرى التي يعرف كميتها المطلوبة تماماً حتى يغدو اللون بهذه الجاذبيَّة والسحريَّة، فيتمّ (الخبر) بضربة فرشاة، فتدرّج الألوان، مثلاً في سعف النخيل في القرى التي رسمها كثيراً هو غير الألوان التي نعرفها، لأنّها نتاج عين فاحصة تحفظ بدقّة متناهية نسب الواقع وتحوله إلى نسب أخرى تصلح للرسم فقط، ولكنّها في الوقت نفسه تكرّس جماليات هذا الواقع في ذات المتلقي حينما يرى الأمكنة التي يعرفها جيداً وقد تحولت إلى عالم مختلف، ولكنّه يؤشر إلى فتنتها وألفتها المحبّبة، ولعلّ (ريفيات) عاصم الساحرة مثال على قدرته الفائقة على التلاعب بالألوان وتدرجاتها المختلفة وابتكاره لمناطق لونيّة جديدة، حتى يمكننا القول ومن دون أدنى مبالغة أنه أحد أهم (المُلوّنين) في التشكيل العراقي المعاصر.   
ولعلّ دخول عالم فنان بمستواه مغامرة غير محسوبة العواقب لهاوٍ للفن التشكيلي، مغامرة قد تجد ما يسوّغها حينما نرجع إلى منطلق القراءة التي تأوّل وتعيد إنتاج ما خبرته بلغتها هي من دون أن تدّعي أنّها وصلت إلى هدف الفنان.
في عمله (رقيم وايقاعات خطيَّة) تأسرنا الألوان مثلما تأسرنا الحوارات الداخليَّة التي تقترحها الشخوص المتحركة على وفق نمطين من الحركة، الأول حركتها في التاريخ، إذ تنمو الأساطير في عرائش المخيال الجمعي المترع بالرقم الطينيَّة التي عاش عاصم وعشنا نحن  بالقرب منها في بابل ونفّر وأوروك، والثاني هو حركتها البصريَّة التي ينقلها فيها (كاتب) اللوحة أو (رسّامها) في زوايا المكان المحدّد لتدور مع تشكيلات رمزيَّة مشكّلة ذلك الايقاع الذي يصنع المعنى العام لكلّ لوحة.
أما في عمله (أفول القمر) فالألوان والانكسارات التي تصنعها الأشكال التي تنتشر في فضاء اللوحة تعصف بذاكرة الرائي، وهو يبحث عن ضوء شاحب يتسرّب إلى قاع روحه مثلما يتسرّب إلى قاع اللوحة حيث الوجه الإنساني الحائر، وهو ينتظر مصيره بغياب قمره الموحش.
عاصم عبد الأمير تجربة ثريّة في الفن العراقي وهو بمقدار ابتعاده عن الخطاب النخبوي بصفته المتعالية والمنزوية المعقدة يقترب جداً من ذائقة جمهور كبير  يتناغم مع نتاجه المترع بالأواصر التي تشدّه إلى الرسم وكأنَّه حالة وحاجة يوميَّة.