الثقافة وحديث المقهى

ثقافة 2022/05/25
...

 طالب عبد العزيز 
ما تزال رياحُ الشمال التي تهبُّ في المساءات باردة، أو - باردة إلى حد ما- على الشوارع الخلفية بالبصرة، نحن لم نبلغ حزيران بعد، لكن النسيمات ستكون أبرد، وألطف بعد الساعة العاشرة، من مساء كل خميس، بين مقاعد مقهى أسبريسو، التي بضاحية الجزائر، حيث أكون صحبة عدد من الأدباء، الذين مازالوا يجدون الطريق الى المباني الرسمية للثقافة بعيدة وموحشة. 
 
على المقاعد الخيزران تلك نظلُّ نلملم أحاديث الأدب والكتب والسينما والسياسة أحياناً مع الرائحة الفريدة لكوب الاسبريسو، إذا كان بطعم الچوكليت والفستق خاصة. 
كانت المقهى وما تزال مكاناً أثيراً للكلام، لكنَّ الحياة العراقيّة تنسج على نولها ما تشاء، في تقييم أهمية الحديث الذي يدور هناك، حتى قال العراقيون (كلام گهاوي) وهم يقصدون التقليل من جدواه، وعدم جدواه أيضاً. ومع طغيان حديث المقهى الفرنسي في ثقافتنا عبر صورة جان بول سارتر وسيمون دي بفوار وجماعة الرسامين السورياليين وغيرهم إلا أنَّ مراجعة تاريخية بسيطة ستعلمنا بأنَّ المقهى في بغداد وفي بعض الحواضر الأخرى أيضاً باتت هي الأخرى مكاناً ثقافياً مؤشَراً منذ قرن من الزمان، ويتناقل الأدباء العراقيون والعرب حديث المقهى في الثقافة العراقية، لكنَّ المدوّن العراقي اقتصر في تأرخته لها على السياسة ورجالاتها، وعلى بعضٍ من نوادر وخصومات الزهاوي والرصافي، وقليل من أحاديث جيل الجواهري وآخرين، في حين تقول (تخوت) المقاهي بأنها كانت تئن من معارك وصراعات الشعراء والكتاب والفنانين. ترى أينها؟ 
  قبل أيام كنتُ هناك، في اسبريسو كافيه، بحديث طويل، مع أصدقاء أدباء، أخذت الثقافة حصته الأكبر، قال بعضُنا ما أحسبه مادةً مهمة في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، اتفقنا على بعض مفاصله واختلفنا في بعضه الآخر، ولو أباحوا لي الخوض فيه لجعلته مادة عمودي هذا، لكنني، ولحساسيته، سأكتفي بالإشارة الى عموم حديث المقهى عند المثقفين العراقيين، ذلك، لأنَّها لم تعد مكانا للتدخين وشرب القهوة والحديث العابر، وأننا اضعنا الوقت والجهد وثمار الحوارات يوم أهملنا تدوينها، والإشارة إلى أسماء من كانوا في المقهى هذه أو تلك. ولم تكتف وثائقُنا بإهمال الحوارات تلك، كما لم نجد بيننا من أشار إلى مراسلات بين الأدباء إلا بحدود ضيقة، غير ذات أهمية. 
  عاصر فؤاد التكرلي محمود عبد الوهاب،  ومحمد خضير، ومهدي عيسى الصقر، وعبد الملك نوري، وعاصر السيّاب نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وسعدي يوسف، وعاصر الرسامون والفنانون والشعراء والكتاب أقرانهم في التوجّه والتفكير والانجاز، وكذلك فعلت الأجيال الأخرى، لكننا لا نعثر بين مطبوعاتنا على شيء من أحاديثهم، في المقاهي، حيث كانوا يجتمعون، ولا في مراسلاتهم الورقيَّة، آنَ كان البريدُ ورقيا حسب، حتى لكأنهم أمضوا حياتهم في أودية مغلقة، لا يرى ولا يراسل أحدٌ فيها أحداً، على أهمية جهودهم، والأزمنة التي عاشوا فيها بمتقلباتها التي نعرف. 
 لا نعتقد بوجود القطيعة بينهم، مع يقيننا بأنَّ خصومات المثقفين تكون أجمل حين تأتينا محمولة ببريد الزمن، معطرة باللغة العارفة، ومزدانة بأحرفهم وصورهم.. لكننا نعتقد بأنَّ ثقافة التوثيق لم تكن فاعلة في حياتهم، بل لم تكن فاعلة في حياة العراقيين بعامة ايضاً، بما فيهم نحن أبناء الأجيال اللاحقة، فها نحن نجد أنَّ آفة المكاتبات الالكترونية والمهاتفات التلفونية قد أتت على ما يمكن حفظه وتأمله. أنسبُ لنفسي توجيه دعوة مخلصة لكل أصدقائنا الأدباء والفنانين بوجوب الاحتفاظ بالمراسلات التي تتم بيننا، عبر خزنها في ذاكرة الهاتف، أواللابتوب، أو استنساخها ورقيَّاً، فهي وثائق أكبر من أنْ تكون شخصية وعابرة، ولا أبالغ إذا قلت بأنها ثروة وطنية، وذاكرة شعب، وتاريخ أمّة.