تَشْمِيسُ التشوّه في الرواية

ثقافة 2022/05/27
...

  قيس عمر
 
يتعرض الجسد أحيانا لتشوّهات صغيرة،  ذات طبيعة خاصّة وسريّة، غير مرئية بفعل احتجاب الجسد بالملابس، هذه التشوّهات الجوانية خطرة جداً، على الرغم من صغر حجمها، مقارنة مع أيَّما تشوّه خارجي مرئي، وذلك بسبب من طبيعة وحساسية المخفيّ والمستتر من الجسد، فثمة وعي جسديّ يعمل على طمر، واخفاء، وستّر، هذا التشوّه وعدم تعريضه  لـ التشميس/ الظهور وأقصد بالتَشْميس والظهور هو تشميس التشوّه على المستوى النفسيّ وتعريضه للهواء، الذي يولد تصالحا داخلياً مع هذا التشوّه أو المغايرة، التي جعلت الجسد مختلفاً بالإرادة أو بالقوة، و لا فرق، فثمة اختلاف ومغايرة سريّة محتجبة، تعمل على مرّكزة التشوّه  ومصادرة بقية الجسد غير المشوّه لصالحها، وهي فعّاليّة ذات طبيعة انطولوجية، جذرها الامتداد، والهيمنة، والاتساع، ومعلوم أن أيّ فعل يتقصّد في اشتغاله الامتداد، والاتّساع، والهيمنة، هو فعل انطولوجي. فالجسد في صورته المشوهة، عندما يكون  مُشوهاً، ناقصاً،  مُعاقاً، موصوماً، منبوذاً، فإن هذا التشوّه/ المغايرة تمارس دوراً هيلمانياً سلبياً هدفه الاتّساع، فالتشوّه الجسديّ الجوّانيّ المحجور عليه، يلتم، ويتكاثف، ويتبأر حول نفسه، على مستوى الشكّل الخارجي المادي، حين يتعرض للانكشاف الإرغامي، لكنه على المستوى الدَّاخلّي،  يتحوّل لهويَّة نفسيّة متغوّلة، وذات طبيعة انطولوجية مشوهة، ضاربة في العمق النفسيّ لهذا الإنسان المشوّه جوانيّاً.
 إن التشوّهات الجسدية المحجوبة، سواء كانت بالزيادة أو النقص، تعمل على تكوين هويَّة معنوية سلبية، ثم تتحول هذه الهويَّة، لصورة داخلية/ خارجية قبائحية ذات كثافة عالية، وتعمل  الهويَّة القبائحية على إنشاء وعي خاص بالجسد، وعيّ يستهدف إعاقة الجسد، وتسكين حركته بشكّل تصاعدي، حتى يدخل في حالة من العزلة والسكون على المستوى الجمالّي،  فالتشوّه السريّ المحجوب،  يتضخم ويتعمق في وجوده النفسيّ، حتى يطغى على بقية الجسد، فثمة مصادرة غريبة للجزء السليم، على حساب الجزء القبائحي المشوّه والمنْبوذ، فإذا كان هناك مثلاً، ثدي تم استئصاله بسبب ورَّم سرطاني، فإن الجزء المبتور ومحلّه سيعملان على، الإطاحة بكامل الجسد ومصادرته؛ بفعل النقص المكاني الحاصل، فغياب عضو جسدي  يعمل على خلخلة التوازن الجمالّي للجسد، فينهض بدلاً عن العضو، الذي تمت ازالته أو محوه، تشوّه قبائحي ينمو في مخيّلة، صاحب الجسد المشوّه، فيتحول التشوّه لسرديّة قبائحية داخلية، وقد حاول بعض كُتاب الرواية الإمساك بسرديّة التشوّه، وحاول البعض الآخر، تسريّد التشوّهات الجوانية السريّة، بشكل فني وقصدي، كاشفين عن فاعلية إزاحة الجُزء السريّ المشوّه و المنبوذ للكل، وسنجد هذا الجزء المشوّه وهو يمارس فعلاً انطولوجيا، ليكون هذا الجزء التشوّه/ السريّ هو محور يرتكز عليه الجسد المنبوذ، ويكون العالم منحشراً في هذا 
الجزء المشوّه؛ لتتكشف معه هيمنة الجزء غير المرئي على المرئي.
في رواية (أريانة) للميلودي شغموم  نجد أن شخصية (أريانة) تهرب من وطنها بعد قصة حب موجعة مع (العربي الشيّهب) وبعد أن تسافر إلى ميلانو لتعلّم الرقص وتكون راقصة ماهرة، تصاب بسرطان الثدي وتضطر معه إلى بتر ثديها، ويبدو أن (أريانة) التي كانت أهم راقصة فلامنكو قبل بتر ثديها، تحولت بعد التشوّه غير المرئي إلى أنثى فاقدة للتوازن الجسدي، ويأخذ وجودها بالتقلص وفقدان فاعليته. فالرقص يتطلب توازناً دقيقاً في الحركات وكأن غياب أحد الثديين أفقدها توازنها المعهود، كما يكشف النص أن وجود الجسد صار ينظر إليه عبر التشوّه بالنقص/ البتر، إذ أن الجسد برمته تم نفيه، وحجبه، وإيقافه، عن الحياة التي كانت الشخصية تجد نفسها فيها، فالبتر تحول إلى فاعلية إقصائية تمتلك وعياً يتعمد إيقاف الجسد برمته؛ بسبب خيانة أحد الأعضاء الجسديه وتشوهها.
إن سريّة التشوّه غير المرئي، تمتلك فاعلية أكبر من المرئي؛ ذلك أن سلطته تصل إلى أبعد المديات، خارجة من إطارها السريّ غير المعلن؛ لتتحول إلى عنصر يعمل على خلخلة وجود الحركة التي ينهض عليها الجسد،  فيعمل التشوّه  على  تسكين فاعلية الجسد، فيحلّ  السكون والتوقف، محل الحركة والتواصل، فتتجلى فاعلية سلطة الإقصاء الجزئيّ للكليّ ونفيه تماما؛ ليكون هذا المكان السلبي المُخان عاملاً انطولوجيا للجسد في بعده المرئي. فثمة انكفاء وتوقف عن الحياة بفعل سلطة التشوّه والمغايرة، وربما يكشف تسريّد التشوّه عن فداحة التحول الذي أصاب الجسد، من خلال فاعلية النفي، والسلب، والإقصاء، وممارسة أعلى درجات التسلط على الجسد. 
وفي رواية (لحظات لا غير) لفاتحة مرّشيد  تتجلى فاعلية غير المرئي بشكّل كبير على جسد الشخصية، فالشخصية هي طبيبة نفسيّة تجد نفسها في لحظة تأمل بعد مرور سنوات عديدة، إنها مصابة بسرطان الثدي، ولابد من بتر أحد الثديين. وربما يعمل المثنى العضوي في جسد الإنسان على إقامة توازن وجودي مع محيط الإنسان، فثمة خلخلة تحدث بعد إزالة أحد الثديين، فثمة سرانية تمارس اشد أنواع الإقصاء العلني للمرئي من الجسد، تكشف عن نسقية إجبارية وقعت على الجسد؛ بفعل المرض وانتشاره السريع، وليس هذا الانتشار جسدي محض، بل هو انتشار سريّ يخلخل البنية الجمالية للجسد الأنثوي، جاعلا ًمن بقية الجسد تابعاً لهذا التشوّه. 
إن هذه الصورة للجسد المُخان والمشوّه داخلياً، تجعل من الدلالة تنفتح على وجودية الجسد، ساحبة إياه نحو مساحة أخرى مختلفة، هي امتداد واتساع الجانب السلبي المشوّة، ليصادر بقية الجسد السليم، غير المشوه، لا سيما الخارجي المرئي، فثمة فاعلية اقصائية نلمحها في ، تسريد التشوّه في بعده الانطولوجي، إذ إن هذا البتر الذي وقع، يحيل الشخصية إلى عوالم مغايرة لا تنتمي إليها سابقاً، إنه انتماء بالقوة إلى مساحات مختلفة، فالوجود الأنثوي قد تعرض من خلال الثدي المبتور، إلى إقصاء، ونبذ، وسلب الشخصية لدورها الطبيعي، أي تم إيقاف الدور الأنثوي الجمالّي الخاص بالجسد، ويمكن لهذا الجزء الصغير من الجسد، على الرغم من احتجابه وسريته، أن يمارس أعلى درجات السلب والنفي للجسد، إن التشوّه بفعل البتر يجعل الجسد مُخانا ًعلى المستوى الحركي والجمالّي، وهذا يستدعي أفعالاً ذات طبيعة انطولوجية، تقوم على الامتداد، والتوسع، والهيمنة، وهذا ما يجعل التشوّهات، ذات الطبيعة السريّة الاحتجابية، تشوّهات تمارس فعلاً انطولوجياً؛ لأنها تصادر بقية الجسد، لصالح جزء صغير مُحتجب وسرّيّ وحميم.