ليلة في الخريف

ثقافة 2022/05/29
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب
 
من عنوان النص لمونودراما «ليلة في الخريف»، نكون أمام لحظة اغترابيَّة لامرأة وحيدة عانس ذبلت أوراق جسدها ومفاتنها فهي في خريف العمر تحاكم ماضيها والشخوص الذكور الذين عاشوا ازدواجية التعاطي معها فأحبتهم وأعطتهم من زمنها وعواطفها الكثير ولم يعطوها سوى الكذب والتدليس والنفاق. 
امرأة مقموعة مهمَّشة بسبب التقاليد الصارمة للمجتمع الذي كبلها وقيّدها بقيود تاريخية ونفسية عديدة حاولت أن تفك هذه القيود من خلال البوح والمناجاة ومواجهة الذات، فمن خلال الفضيحة وكشفها تتطهّر وتكسّر غلالة الرتابة اليومية لحياتها والسأم والانتظار لتنفتح على حياة حرة جديدة ناظرة إلى ماضيها بغضب واحتجاج مهشّمة كل البومات الماضي المحتشد بصور مرة وقاسية لتلبس ثياب عرسها المؤجل البيضاء وتغني أغنيتها الأخيرة نحو حياة أخرى يملؤها الصدق والعدل والمساواة.. ينحو النص الذي كتبه كمال علي بأسلوبية سردية اتكأت على البوح الذاتي للمرأة بمونولوج طويل بوصفها راويا عليما بما جرى ويجري، أي أن الحدث الدرامي هو استرجاع لحياة ماضية ومحطات حياتية تراجيدية عاشتها المرأة بحالات صراعية مع الآخر الذكر (الغائب) الذي تحول إلى صور معلقة ودمى سوداء وأصوات طيور وغربان بذروات صغيرة احتشدت في النص أنتجتها لغة المواجهة والجدل مع هذا الغائب. 
إذن نحن أمام نص اعترافات وفضائح نص نسوي بامتياز يكشف ما هو مضمر وغائر في النفس البشرية لا يعتمد في بنيته الداخلية على البناء الدائري للحبكة كما هو معروف في النوع المونودرامي إلا في لحظات الانتظار الأولى التي تكسر في النهاية بانقلاب درامي يتبدى بخروج المرأة وفك غلالة المكان نحو فضاء جديد. 
حاول الإخراج بقراءة المخرج، اشتي كمال، أن يعمل على تجسيد جدل الثنائيات اللوني ما بين الأبيض والأسود ومعادلاتها النفسية والعاطفية المعكوسة على الشخصيات في تكوين سينوغرافيا العرض وانشائها البصري، فالسرير وشراشفه بيضاء اللون كسرت بمخدة سوداء والصور المعلقة يغلب عليها اللون الأسود لتعطي دلالة الشر ورمزيتها التي غلفت الغائبين الذكور، وكذلك زي المرأة أبيض اللون وبدلة العرس بيضاء اللون دلالة طهرانية ضمير المرأة وبحثها عن السلام الداخلي لحياتها، فهي كساعة بلا عقارب في دلالة رمزية أخرى على أن الزمن متوقف وكل شيء معطل لدى المرأة، دخان السيكارة أبيض يشي بدلالة أن عمر الشخصية احترق كما تحترق السيكارة.. لا شيء في ذهن المرأة يهم بعد الآن لا صحتها ولا مرور هذا الزمن الطويل من الانتظارات والخسارات، فهي تلعب لعبتها الفضائحية برقصها مع قاتليها ومدنسيها الذين أحبتهم، ولكنهم لم يبادلوها الحب بالحب، إنما اضمروا عواطفهم تجاهها لغايات براغماتية (نفعية) قذرة، حاول المخرج أن يوظف مرونة الممثلة الجسدية لخلق ميزانسينات حركية متغيرة باستمرار ما بين السكون والتوثب والحركة الحرة لشغل الفضاء المسرحي الذي ظهر أشبه بسجن شفاف لطائر يحاول الهرب أو فراشة تحاول الخروج من شرنقتها لتدخل في شرنقة جديدة وسجن آخر، وأسس الإخراج كادراجا سينمائياً بوجود قطعتي الشراشف السوداء بشكل عمودي متقابل لتوليد عمق مجال وخلفية للصورة المسرحية جثمت داخلها بدلة العرس البيضاء لتولد تركيزاً بؤريا في الصورة دلالته تشير إلى أن حلم المرأة هو الاقتران والارتباط وعيش حياة جديدة من خلال لبس البدلة بمعنى رمزي استعاري وليس بالمعنى الأيقوني للعرس.. حقيقة تبقى لعبة المونودراما هي لعبة الممثل الكبرى مهما حاول الفعل الإخراجي أن يقدم المعالجات والرؤى البصرية المختلفة والأشكال والتقنيات المبهرة إلا أننا لا نثق بالعرض المونودرامي عندما يخفق الممثل بطيران ضعيف وأجنحة واهنة، فكما يقول ويوصي المعلم الراحل قاسم محمد بأن على الممثل أن لا يرسم عصفوراً ناقصاً.. لكي يحلق بالدور بعيداً، جاء الأداء التمثيلي للممثلة، سيفه رملا ستار، مقنعاً نوعا ما إلا في حقيقة الاقناع الفسيولوجي، فعمر الممثلة الصغير لا يناسب عمر الشخصية بتاتاً، وبدا صوتها ضعيفاً في لحظات كثيرة من العرض إلا أنها امتلكت صوتاً جميلاً معبراً، خصوصا في لحظات غنائها وشدوها. 
حاولت الممثلة في ضوء تحولات الشخصية النفسية أن تقترب من مفهوم الممثل اللاعب، بكسرها ليقين السرد في أكثر من حالة، إلا أن الأسلوب البنائي للمسرحية لا يقتضي ذلك، فهي مسرحية تقمصية واندماجية بامتياز، وحسناً فعل المخرج عندما لم يوكل للممثلة لعب الشخصيات الذكورية في العرض، كما يفعل الممثلون في أغلب المونودرامات عندما يتحول الممثل إلى شخصية كاريكاتورية تقلّد شخوصاً أخرى تثير اشمئزاز المتلقي. 
أخيراً، امتلك العرض زمام الضبط الجمالي للفضاء المسرحي المؤسلب والمكتنز والدال على وفق ما صممه السينوغراف، شمال فهمي، في شكل جمالي لعرض قادم من مدينة السليمانية حيث أضاف العرض للمهرجان تنوعاً ثقافياً اغتنت به عروضه الآتية من ثقافات عراقية شتى.