الحداثة وما بعد الحداثة .. الطريق إلى الفهم

ثقافة 2022/05/29
...

  عبد الغفار العطوي 
يمكن القول إن هذين المفهومين والمصطلحين هما من أكثر المصطلحات والمفاهيم شيوعاً واستعمالا اليوم على ألسنة المثقفين وغير المثقفين، وليس حكراً على  الانتلجينسيا في العالم، وهما كغيرهما من المصطلحات المتداولة في ثقافة الغرب، وتعيشها المجتمعات الغربية في جزء من وعيها الثقافي المعيش، ولا تشكل غرابة في الخطابات اللسانية والثقافية والاجتماعية والسياسية (مثلما نحن بعيدون كل البعد عنها إلا إننا نجترها كثيراً؟). 
لو أخذنا بتعريف بيتر تشايلدز في كتابه (الحداثة) لهما في أنهما واقعان تحت هيمنة الواقعية، بأنهما طريقتان جديدتان لتمثيل الواقع والعالم، فيصبح ذاك التعريف المبسط شاملاً لقائمة عريضة من الفكر والفلسفة والأدب والفن والعلم، وهذا هو ما نريد تجنبه سعياً للاختصار، ويبدو أن قضية التمثيل هي التي تجعل من ترابطهما أساساً في فهم العلاقة بينهما ليس غير، فالجانب الإبستمولوجي هو صنف الفارق بالنسبة لهما في التحولات اللغوية والثقافية التي ميزت بين ما هي الحداثة وهو مصطلح جدلي، وحدودها، من القرن الثامن عشر، وما هي أشكلة ما بعد الحداثة الحقبة الأكثر التباساً في القرن العشرين، ففي كتاب (الكلمات والأشياء) لميشيل فوكو (1936 - 1984) برز التمثيل في اللغة العنصر المهم في تحولات الحداثة من كتابات دارون (1809 - 1882) ودوسوسور (1857 - 1913) إلى ماركس (1818 - 1883) وفرويد
(1856 - 1939) ونيتشه (1844 - 1900) التي قامت بنقد  فكر حقبة  الحداثة التي أعقبت (العصر الكلاسيكي في الغرب 1650 - 1800) من ناحية تحول كينونة الإنسان في الوجود إلى كائية في اللغة، أي بروز الإنسان كذات في واقع غير حقيقي، وظهور فلاسفة ما بعد الحداثة جاك دريدا (1930 - 2004) وليوتار (1924-1998) وبورديو (1930 - 2002) وميشيل فوكو، وبداية الحداثة لم تكن بالنسبة لما بعد الحداثة ملزمة في أهمية التعامل مع التعاريف والمصطلحات التي فرضتها طرق التعامل في كليهما، من حيث تصريح كارل ماركس في عام 1845 بأن الفلاسفة لم يفعلوا شيئاً سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، ليضع ما بعد الحداثيين قضية التمثيل من مختلف جوانبها البستمولوجية مؤكدين على صعوبة الاستناد إلى تمثيلات تستند الى المجازية اللغوية من ناحية، وتفتقد المصداقية الواقعية من ناحية أخرى.  
أي أن الفارق بين الحداثة وما بعد الحداثة في التمثيل بين الذات والواقع واللغة، مع الأخذ بالفرق في أن الحداثة تشكل حقبة تاريخية أختلف الباحثون في تعيين زمنيتها، وإن كانت شاملة لجميع النشاطات الإنسانيّة في الفلسفة والأدب، خاصة في الشعر والرواية، والفن والعلم في الاعتناء بفكرة الإنسان الجديد، وامتازت في اعتنائها بالمفاهيم العقلانيّة، بينما الحداثية شيء آخر مختلف، هي طريقة أو أسلوب قام على نقد إنجازات الحداثة بكل رؤاها ومعاييرها.  
لهذا يؤكد بيتر تشايلدز أن الحداثة هي أدب القرن العشرين ولكن نداءها الصارخ ظهر طوال القرن التاسع عشر في أصوات متنوعة مثل كيركغارد (1813 - 1855) وكارلايل (1795 - 1881) وسترينبرغ (1949 -) وميلفل وآبسن وبودلير (الحداثة 41) بمعنى عدم قدرتنا على تحديد أفق تصوري للحداثة أدى للتداخل بينها وبين الأساليب التي راهنت على نقد بعض غموضها وتوجهاتها الصارمة نحو تذويت الإنسان، فرواد ما بعد الحداثة كفوكو ودريدا وبورديويار توجهوا نحو مناطقها الرخوة بالنقد والتهديم، لكن التيار المضاد لما بعد الحداثة قد خفف من وطأة هؤلاء، فبقدر ما كانت ما بعد الحداثة حركة نقدية واسعة لدعائم وأسس وتبعات مشروع الحداثة كانت بحد ذاتها محل نقد وجدل بما طرحه مفكروها حول النظرية والمنهج من مفكري ما بعد بعد الحداثة (التيار المضاد لما بعد الحداثة) من حملات مضادة حول العلم والعقلانيَّة.  
لهذا فهناك من الباحثين الغربيين يذهب إلى أن الحداثة هي نفسها مازالت سائدة، وإن فهم طريق التعامل معها يمر عبر مفهومي التأويل والتغيير، فمن ناحيته كان كارل ماركس معروفاً باهتمامه بالإنسان ووضعه الاقتصادي وتحولات المجتمعات، لهذا شكل مع رفيقه إنجلز مشروعاً لكتابة البيان الشيوعي الذي هزَّ العالم آنذاك، وسار على خطه ماكس فيبير وإيمانويل دوركهايم في تطور الرأسمالية، ومكانة الإنسان في الحداثة، إلى جانب النقد الماركسي للرأسمالية أصبح تأثير نظرية النشوء لدارون ملموساً أيضاً في الكتابة الحداثية، وكان الأساس في نقد الحداثة المبكر، لأن اهتمام ماركس ودارون بالإنسان وواقعه كان له ردة فعل من قبل فلاسفة ما بعد الحداثة في تفضيلهم القضايا الابستمولوجية في عمق الأثر الذي حققوه على المنهج والنظرية، وإن كان فرويد في منجزاته النفسية خاصة في التحليل النفسي والطفولية الجنسية فقد حقق للإنسان المزيد من الفهم في ما يتعلق بأمراض اللا شعور، بإخراج عالمها الباطن إلى الشعور، فإنَّ نيتشه مهَّد الطريق لما بعد الحداثة في اللغة باعتباره فقيهاً فيها، وهاجم بنظرياته في السوبرمانية الصفات المهلهة للذات، لكن أخطر ثورة في عصر الحداثة في القرن العشرين الثورة الألسنيَّة التي فجَّرها سوسير، لتلاقي صعوبات وانتقدات جمة من أكثر من موضع، حيث كانت أهمية اللغة للوعي الحداثي كبيرة. 
كما كانت لما بعد الحداثة من حيث أنها جعلت الكتاب الواقعيين يمتلكون وسائل تمكنهم من وصف العالم، ويطلون بها على الواقع، لكن إشارة بارت بأنه ليست لها علاقة مباشرة بالعالم الحقيقي لأنَّها هي رمزيَّة، فكل أشكال التمثيل غير ملائم، بسبب أن صور العالم ما دامت تنبع من اللغة لا يمكن تبادلها مع الناس قوَّضت أداء اللغة في فهم العالم ما بعد الحداثي، فضلا عمّا قام به ما بعد الحداثيين في نقاشهم عن حلِّ الارتباط بين الدال والمدلول، وكان جاك دريدا قد حمل على عدم الارتباط بينهما ولا تطابق بينهما، لهذا كان التيار المضاد لما بعد الحداثة قد عاب رفض ما بعد الحداثيين لمعايير المنهجية العلمية للحداثة، أو تحديداً للمنهجية العلمية الوضعية، والاستعانة ببدائل ما بعد الحداثة كالتفكيك، وأعادوا للفكر الحداثي الإجماع الفكري لجميع التخصصات الفكريّة التي كانت مجمعة على نشاطات الاتجاهات الفلسفية والفكرية في الحداثة.