العراقيّون في عيون الرحّالة الإسباني ريفادينيرا

ثقافة 2022/05/29
...

 موسى إبراهيم أبو رياش
يوثق كتاب «من سيلان إلى دمشق» رحلة الإسباني أدولفو ريفادينيرا عام 1869 التي بدأت من سيلان وانتهت بدمشق، وزار خلالها عشرات المدن والمواقع ومنها: بومباي، كوراشي، غوادار، مسقط، بندر عباس، بوشهر، البصرة، القرنة، بغداد، بابل، الحلة، بعقوبة، دلي عباس، كفري، كركوك، أربيل، الزاب، الموصل، نينوى، زاخو، جزيرة ابن عمر، نصيبين، ماردين، ديار بكر، أورفة، بيرجيك، حلب، دمشق.
بدأت رحلة ريفادينيرا في العراق من الفاو على شط العرب جنوب العراق، وانتهت بزاخو في أقصى الشمال. وقد تنقل من الفاو إلى بغداد بالمراكب البخارية، ثم أكمل رحلته داخل العراق على ظهور الخيل.
لم يعتمد ريفادينيرا فيما أورده في كتابه على مشاهداته وملاحظاته فقط، بل استعان بكتب التاريخ والآثار والوثائق الرسمية ومن سبقه من الرحالة؛ إذ إنه أورد معلومات دقيقة وأرقامًا وتواريخ لم يكن له أن يتوصل إليها وحده، وقد أشار إلى ذلك أحيانًا.
وقد اهتم ريفادينيرا بكل ما رآه أو سمع عنه، فوصف المكان والإنسان والآثار والعادات والمعتقدات والأحوال الاجتماعية وظروف الزراعة والتجارة وبعض الحرف والمهن وأخطار الطريق وغيرها، وتقتصر هذه المقالة على صورة العراقيين كما يراها ريفادينيرا، ولكن ينبغي الحذر؛ فلا يمكن أن تؤخذ رؤية الرحالة للعراقيين على علاتها، فثمة صورة نمطية مسبقة في أذهان معظم الرحالة الغربيين، يبحثون ويكتبون ما يعززها، ونادرًا ما تتصف كتاباتهم بالموضوعية وعدم التحيز.
استرعى انتباه ريفادينيرا في البصرة «مظهر السكان العليل المكفهر» ويعزو ذلك إلى قلة النظافة، وعدم وجود نظام صرف صحي، ووجود قناة تصب فيها الفضلات، ومستنقعات تتسبب بحمى المستنقعات أو البرداء.
وفي منطقة القرنة، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات، لاحظ أن الأطفال لا يفطمون إلا بعد السنة الثالثة أو الرابعة، وذلك يسهم في تطورهم اللاحق كما يقول، كما أنهم لا يقمطونهم أو يلفونهم، بل «ينمون منذ ولادتهم طلقاء مثل النباتات ومتيني البنية»، ولبطونهم ضخامة. وهم كبارًا وصغارًا «يجولون في البطاح نصف عراة، ورؤوس مكشوفة، من دون أن تؤدي حدة الشمس أو حر أربعين درجة إلى إصابتهم بالمرض»، ويفسِّر ذلك نقلًا عن هيرودت بأنَّ حلق شعر الرأس منذ الصغر، يؤدي إلى تصلب عظام الجمجمة تحت الشمس.
أما سكان بغداد، فينعمون بمتانة البنيان وسلامة الأبدان، ويتزوّجون في الحادية عشرة من العمر، وهو «وضع يبدو الأبناء معه كأنهم أخوة آبائهم». وفي شمال العراق، التقى رجالًا من زاخو وتل كيف، يتميزون «بقامات عملاقة، وتقاطيع متناسقة، ومظهر على شيء من الشراسة، أناس يبدو واضحًا أنهم من عرق مختلف»، ثم عرف أنّهم «يمثلون الأنموذج الكردي بكل نقائه».
يبدو أنَّ معظم سكان العراق كانوا يعانون من الفقر والفاقة إبان رحلة ريفادينيرا؛ ففي منطقة القرنة، كان الناس يعيشون حياة بدائية في أكواخ كبيرة من القصب، وإذا لمحوا سفينة بخارية، «يبدأ الرجال والنساء والأطفال بإطلاق صرخات مرعبة طالبين منها التوقف، ويرمي لهم المسافرون تفاحًا، فيخلعون أسمالهم، ويسبحون وراء الثمار». وكانوا يطلقون النار أحيانًا ليجبروها على التوقف. وفي مواسم الحصاد، تكثر السرقات بسبب ما يعانونه من فقر وبؤس.
ومثلهم، البدو، بين بغداد ودمشق؛ إذ يقوم البدو في كثير من الأحيان بسلب القوافل والمسافرين، يقول ريفادينيرا عن البدوي: «إنّه مشاعي بامتياز، ولا يستطيع أن يفهم كيف ولماذا يملك آخرون ما لا يملكه؛ فيدنو ممن هو ليس من قومه، ويطلب منه ما يحمله، ويتركه عاريًا، ثم يشير له بإصبعه إلى جهة الطريق التي عليه إتباعها، ويودعه بتهذيب. فإذا ما قاوم، تُطلب مقابله فدية، وريثما تصل الفدية، يدفنون الأسير في الرمل حتى نحره»، والبدوي لا يقتل إلا في الحرب، ولذا لا يقتلون من يسلبونهم، بل يدعونهم بسلام ويدلونهم على الطريق.
ويصف حالة البؤس في دلّي عباس التي وصلها ليلًا: «كانت هناك اثنتا عشرة خيمة بدوية مقرفة، وكان ينام فيها معًا، على الأرض، رجال ونساء وأطفال ودجاج».
ومن الطرائف المؤلمة التي يرويها عن منطقة كفري التي كانت وكرًا للصوص: «سمعت مناديًا يعرض بارة مقابل صبي تائه، وبارتين اثنتين مقابل بغل ضاع للتو؛ لم أستطع فهم ذلك التثمين الذي بدا لي مستهجنًا، فطلبت تفسيرًا من المنادي؛ فقال إن البغل ينفع في بعض الأعمال بينما لا ينفع الطفل في شيء، ومن المؤكد أنهم سيجيئون بهذا قبل
ذاك».
وفي أربيل نزل ريفادينيرا في بيت ابن عم لدليله، ويصف البيت: «يتألف من فناء، يغص بكل أنواع الحيوانات الداجنة، ومن حجرة من الخشب والروث، تستخدم في الوقت نفسه كغرفة جلوس، وطعام، ومطبخ، وغرفة نوم، الخ. وهناك كانت تتكوم الأسرة كلها؛ الزوج، والمرأة، وخمسة صبيان وثلاث جاريات، فضلًا عن الأقارب والأصدقاء الذين يقضون معهم أوقات الفراغ في التدخين».
وبسبب فقرهم، وحاجتهم إلى الذكور كأيدي عاملة، فإنهم يفرحون ويتباهون بإنجاب الذكور، ويشعرون بالخيبة والحزن والعار وتراكم الهموم إذا كان المولود أنثى.
يصف ريفادينيرا جانبًا من ملابس وزينة أهل بغداد من الرجال والنساء، يقول: «الرجال يضعون تلك العمائم التي نراها في الرسوم القديمة، عرضها ثلاثة أشبار ووزنها ست أو ثماني ليبرات. ويرتدون نوعًا من المعاطف الطويلة التي تصل حتى القدمين، وتكون في أغلب الأحيان مبطنة بفرو الوشق أو السمور أو السنجاب، وهي تحميهم في الصيف، كما يقولون، من حرارة الشمس وفي الشتاء من البرد. ومن عادة النساء طلاء وجوههن والتجول محجبات بصرامة، وفضلًا عما لا حصر له من زينات التطريز وكل أنواع المجوهرات، يضعن ما يشبه الحزام، بعرض راحة اليد، وهو مشغول من أنصاف كرات مجوفة من الذهب بحجم قبضة اليد». ولاحظ أن الرجال والنساء يتزينون بالكحل والحناء والوشم. 
وفي ثنايا رحلته، يصف ريفادينيرا العراقيين الذين التقاهم في أثناء رحلته بأنهم يكرمون الضيف، ويقدرونه يقول: «خرجت من كركوك، يرافقني عشرة أشخاص كنت تعرفت إليهم هناك، وعندما ودعوني خارج المدينة، عانقوني بعاطفة متدفقة كما لو أنهم يعرفونني منذ الأزل». ويتأثر بمشهد أهالي القرى التي مر بها بعد مغادرته الموصل، وهم واقفين فاغري الأفواه، ويعقب: «ولكنني في حالة من التأثر، نتيجة شيء من الحزن الذي يسيطر عليَّ كلما خلفت ورائي قرى لن أعود إلى المرور بها، وأشخاصًا أخرج مدينًا لهم بكل أنواع الرعاية، ومن دون أمل في أن تتاح لي فرصة رد الجميل لهم».
ويستنتج القارئ مما أوردناه من أمثلة عدم اكتراث السلطات واهتمامها وقيامها بواجبها تجاه المواطنين، وإنعدام الأمن في كثير من المناطق، وشيوع الفقر والفاقة والسرقة والسلب والاستغلال، ويقتصر الازدهار النسبي على مناطق محدودة جدًا، بينما يعيش بقية الناس في الظلام والوحل. 
مؤلف الكتاب أدولفو ريفادينيرا (1841 - 1882)، رحالة إسباني، وابن لأحد أبرز الناشرين في زمانه، شغل عدة مناصب دبلوماسية في بيروت والقدس ودمشق وبلاد فارس وسيلان وغيرها من المناطق. صدر كتابه للمرة الأولى عام 1871 بالإسبانية، ونشر بالعربية عام 2009 عن دار المدى بدمشق، في 191 صفحة، بترجمة صالح علماني (1949 - 2019)، الذي ترجم عشرات الكتب والروايات لأعلام الأدب الإسباني.