احْذَرْ في بيتك شبح

ثقافة 2022/05/29
...

 هدية حسين
الأشباح حكاية أزليَّة بدأت منذ القدم وازدهرت في القرون الوسطى، وماتزال تعيش وتتناسل كلما وجدت لها مريدين، ترى ما هي حقيقة ظهور الأشباح ومتى بدأ ظهورها يقلق الأحياء من البشر؟، ماذا يقول العلم فيها وماذا تقول الخرافات وكيف تناولها الأدب؟، هل ثمة دراسات تفرز لنا ما هو حقيقي وما هو خرافي؟.
 
ثمة استطلاع للرأي أجري قبل سنوات قليلة وأخذ عينات مجتمعيَّة في أميركا وبريطانيا، يقول إنَّ 52 بالمئة من الأميركيين يؤمنون بالأشباح، ومثل هذه النسبة تقريباً في بريطانيا يؤمنون بالأشباح أيضاً، ورصدت العديد من الدراسات والبحوث هذه الظاهرة، وجاءت النتائج أن العلم لم يؤكد وجود الأشباح، وفي الوقت نفسه لم ينفها تماماً، لكنه عزاها الى أسباب تتعلق باضطرابات عقليّة ونفسيّة وتشوّش بصري وسمعي، يعيشها البعض فيخيل إليه أنه يرى الأشباح من خلال ما ترسّب في المخيلة عبر العصور بما تفعله الأشباح. 
أما الخرافات فتؤكد وجود الأشباح وتنسبه لقوى غيبيَّة، وأنّها تسكن في البيوت المهجورة أو الأماكن النائية فتظهر في هيئات متعددة لتبث الرعب في النفوس، وغالباً ما تكون هذه الأشباح لميّتين.. وبين الحقيقة والخرافة والأسطرة تبقى الأشباح تسرح وتمرح كلما وجدت لها مكاناً خصباً، والباب ما يزال مشرعاً أمام الكثير من الدراسات ولا نظنّ بأنّها ستنتهي.
لقد تحوّلت حكايات الأشباح الى أساطير لا يخلو منها شعب من شعوب الأرض، وقد استفاد الأدب من هذه الظاهرة وترك لنا أعمالاً كثيرة كان للشبح فيها النصيب الأوفر، نذكر منها على سبيل المثال مسرحية (هاملت) لوليم شكسبير، تلك المسرحية التي تجاوزت عصرها وماتزال تعرض برؤى عديدة في شتى أنحاء العالم حتى يومنا هذا، أما أوسكار وايلد صاحب الأعمال ذات الأبعاد الفلسفية في العديد من نتاجاته فقد أتحفنا برواية قصيرة عنوانها (شبح كانترفيل) وهي رواية تتناول قصة شبح كحقيقة وليس كخرافة، بل يصبح الشبح شريكاً بالبطولة الى جانب الشخصيات الأخرى، ويمتلك قدرات تفوق مستوى الخيال فما هي قصة شبح كانترفيل هذا؟
يبدأ التشويق منذ الصفحات الأولى، عندما أراد اللورد البريطاني كانترفيل أن يبيع قصره فلم يتقدم له سوى الوزير الأميركي المفوّض في بلاط سان جيمس، وبأمانة شديدة نبّه وحذر اللورد كانترفيل المشتري الى حقيقة وجود الشبح في هذا القصر (الواجب يلزمني أن أذكر لك أن أفراداً من أسرتي لايزالون على قيد الحياة قد رأوا الشبح رؤية العين) فما كان من المفوض الأميركي الذي لا يؤمن بوجود الأشباح إلا أن يرد بما يشبه المزاح (أنا يا سيدي اللورد سأشتري الأثاث والشبح حسب تقدير الخبير، فالبلاد التي أنتمي إليها بلاد عصريَّة) وزاد اللورد بأن الشبح يسكن القصر منذ ثلاثة قرون ويأتي على شكل هيكل عظمي، إلا أن الوزير الأميركي أصرَّ على الشراء، وهكذا انتقل هو وزوجته وأولاده، الأبن الأكبر يعد نفسه للوظائف الدبلوماسية، وتوأم وصبية تدعى فرجينيا كأنها حوريَّة خرجت من الأساطير، والأسرة كلها كما يصفها أوسكار وايلد ممتلئة بحب الحياة، وبقي في القصر بعض الخدم ممن كانوا يعملون لدى اللورد كانترفيل ترأسهم مدبّرة المنزل (أمني).
وبرغم التنظيف بقيت في إحدى الغرف بقعة لسائل أحمر باهت، أمرت سيدة القصر كبيرة الخدم بإزالتها، إلا أن (أمني) أخبرت السيدة بأنَّ هذه البقعة تعود الى دم الليدي إليانور التي قتلها زوجها سيمون في العام 1575 في هذا المكان، ثم عاش تسع سنوات في هذا القصر بعدها اختفى ولم يُعثر عليه، لكن الوزير حين سمعها صرخ بها وقام بإزالة البقعة، وما إن تم له ذلك حتى أضاء وهج عظيم ودوى رعد مخيف فسقطت مدبّرة المنزل مغشياً عليها، وعندما أفاقت راحت تحدث الأسرة بقصة الأشباح التي شاهدتها خلال سنوات عملها في هذا القصر.
بقعة الدم التي أزالها الوزير المفوض عادت في اليوم التالي، وتكررت عودتها كلما أزيلت، حتى أيقن الوزير بالأشباح إلا أنه لم يشعر بخوف حتى لو ظهرت، وكذلك الأمر بالنسبة للأسرة، وفي إحدى الليالي استيقظ الوزير على ضجّة خارج غرفته، وعندما خرج صار وجهاً لوجه أمام شبح رهيب الهيأة بملابس ممزقة وشعر طويل مجدول، مقيّد اليدين والقدمين بسلاسل، فتعامل معه ببرودة أعصاب وقدم له قارورة زيت طالباً منه أن يدهن السلاسل، ثم تركه وعاد الى غرفته، أما الشبح فقد اختفى في أحد الحيطان غاضباً واعتبر تصرف الرجل معه مهيناً، وهو الذي لم يتصرف معه أحد على مدى ثلاثة قرون بهذا الشكل، مستذكراً كل من خافوا منه وانتهوا الى الموت رعباً، أو مضوا الى نهايات فظيعة، فقرر أن ينتقم.
يترك أوسكار وايلد العنان لمخيلته باستحضار أولئك الذين أخافهم الشبح، بقصص أقرب ما تكون الى الأساطير، وهيئات عديدة تفوق التصور للشبح لكي يخيف الآخرين، محاولاً بين تذكّر وتذكر استدراج ساكني قصر كانترفيل لمشيئته، غير أنه كلما ابتكر طريقة وجد من يتصدى له فيزداد غضباً، خصوصاً من قبل التوأم حيث ابتكر الأخوان الصغيران حيلاً للإيقاع به، وستجرى مناورات ومواجهات بينه وبين أفراد الأسرة، وفي كل ليلة تبزغ معركة جديدة، وكلما ازدادت حدة المواجهات ازدادت معها القصص المرعبة للشبح.
لم يستطع أحد التعامل معه بلطف لكي ينصرف، إلا تلك الصبية (فرجينيا) التي تشبه حوريَّة من الأساطير، فقد ظهر لها الشبح بقصد إخافتها لكنها تحاورت معه بطريقة لطيفة، رأته مهموماً فرقّت لحاله وحاورته بهدوء ففتح لها مغاليق نفسه وشكا لها وحدته منذ ثلاثة قرون وطلب منها أن تفتح له باب الموت قائلاً (الموت جميل... وجميل أن يُمحى أمسك وغدك.. جميل أن تنسى الزمن وأن تنسى الحياة، جميل أن يحل عليك السلام) ص37، سيستمر الحوار بين الاثنين، حوار شيق وممتع حتى يختفي الشبح تماماً وراء باب الموت ليموت بعد أن استغفر عن ذنوبه، لتبقى الأسرة المحبة للحياة تعيش بهدوء بعيداً عن الشبح، وتبقى هذه الرواية القصيرة تحفة من فنطازيا تنقلك من رتابة الواقع الى سحر المخيلة الجامحة.