الصوتُ المحجوبُ في رواية «ظلالُ جسدٍ.. ضفافُ الرغبةِ»

ثقافة 2022/05/31
...

 محمد صابر عبيد
خضع الصمت بوصفه فلسفة للكثير من التوصيف والمراجعة والتفهيم من طرف الأساطير والفلسفات والأديان والتواريخ والثقافات والآداب على حد سواء، داخلا في ثنائيَّة (الصمت والكلام) التي تعد واحدة من أهم ثنائيات الفكر الإنسانيّ على مرّ العصور، وحظيت محاولة «مفهمة الصمت» بمساحة واسعة من الاهتمام والمعاينة والفحص لأجل الوصول بالمصطلح إلى مرحلة التجذير والاستقرار والتداول.
 وقد أخذ المصطلح يتفتّحُ على مساقات مفهوميّة لا حصر لها حين فرض الميدانُ المعرفيُّ الذي يتحرّك في إطاره رؤيتَه ومنهجَه، فهو في الميدان العُرفيّ الدينيّ له طبيعةٌ وحدودٌ ومساحةُ اشتغالٍ ورؤيةٌ ومنهجٌ، وفي الميدان الفلسفيّ والثقافيّ والأدبيّ ينزع نحو تمثّلات منهجيّة ورؤيويّة تعبّر وتستجيب لنوعيّة الحقل المعرفيّ ومتطلّباته.
الصمت في الأدب يعدّ من الظواهر الرئيسة البارزة على المستوى اللسانيّ والسيميائيّ والرمزيّ، وله تمظهرات وتشكّلات لا حصر لها لعلاقته بطبيعة التجربة الأدبيّة في النصّ التي كثيراً ما تنحو نحو الاهتمام بالبنية العميقة (الصامتة) قياساً بالبنية السطحيّة (الصائتة)، وعلى هذا فإنّ مصطلح (المسكوت عنه) الذي قد لا يخلو منه أيّ نصّ أدبيّ يمثّل شكلاً من أشكال الصمت في الأدب، من حيث قيام الأديب بتعبئة هذا الجزء الصمتيّ من نصّه بما تيسّر من القيم والأفكار والرؤى؛ وهي بحاجة إلى قدر من الخفاء لأسباب موضوعيّة وجماليّة.
تنتمي رواية (ظلالُ جسدٍ.. ضفافُ الرغبةِ) للروائي سعد محمد رحيم إلى فضاء الأعمال الروائيّة المشغول بثنائيّة الصوت والصمت، إذ تبدأ هذه الثنائيّة بالعمل من عتبة العنوان القائمة على تشكيل متوازٍ بين صورتين كلاميّتين، الأولى (ظلالُ جسدٍ) والثانية (ضفافُ الرغبةِ)، تقومان على بنية لغويّة تضايفيّة، وعلى الرغم من أنّ بنية التضايف بطبيعتها تؤسّس لتشكيل لغويّ موحّد يتلاحم فيه طرفاها (المضاف والمضاف إليه)، غير أنّ تلمّس معنى الصوت والصمت يصل إلى حقيقة انتماء دالّ (جسد) للصوت، وانتماء دالّ (ظلال) للصمت، مثلما ينتمي دالّ (الرغبة) للصوت، ودالّ (ضفاف) للصمت، داخل فهم استعاريّ يتحرّك في إطار ثنائيّة موازية هي ثنائيّة الكلّ الصوتيّ والجزء الصمتيّ.
يمكن ملاحظة بنية تركيبيّة خاصّة في عتبة العنوان ربّما لها علاقة ما بهذه الرؤية النقديّة البحثيّة، تتعلّق بالفرق بين البنية التضايفيّة الأولى (ظلالُ جسد) بوصفها إضافة نكرة إلى نكرة، والبنية التضايفيّة الثانية (ضفاف الرغبة) بوصفها إضافة نكرة إلى معرفة، ولعلّ تأويل ذلك سيميائيّاً يتأتى من أنّ دالّ (جسد) على تنكيره يحمل في طيّاته علامة دامغة على قوّة الحضور والتبنين والإشهار، فهو في مظهر أساس من مظاهره (صوت) بارز مكتظّ بالمعنى القادر على ملء المضاف (ظلال) بالتجسيد والتجسيم الصوريّ، في حين يتخفّى دالّ (الرغبة) مع تعريفه داخل علبة صمت تختزن كثيراً من الدلالات والمعاني، ولا يسمح لها المضاف (ضفاف) بفرصة الظهور على النحو المطلوب إلا بوجود الآخر الغائب (جسد)، على النحو الذي يجعل لعبة الصوت والصمت على أشدّها ابتداءً من عتبة العنوان بتشكيلها الاستعاريّ.
الراوي الذاتيّ يتصدّر المشهد الروائيّ بوصفه الشخصيّة الرئيسة المحوريّة الحاوية للأطروحة السرديّة في الرواية، ثمّة اندماج كبير بين مَهمّة رواية الحدث والقيام بدور الشخصيّة الرئيسة في الرواية، ولاسيّما حين تهيمن هذه الشخصيّة على مُقدّرات الحدث الروائيّ وتتدخّل في أدقّ تفاصيله، حتى لتبدو الرواية وكأنّها سيرة ذاتيّة سرديّة للشخصيّة تدور محوريّاً حولها ولا قيمة للشخصيّات الأخرى بما فيها (رواء العطّار) بتسمياتها المتعدّدة إلا بقدر معيّن، يتّضح في سياق سلسلة متواليات سرديّة تغذّي فعاليّة الشخصيّة الرئيسة (علاء البابليّ)، بما يتيح لها أن تتسلّم مقاليد السرد بآليّات الراوي الذاتيّ المتحرّك في جسد الرواية تاركاً صمته على ظلالها، والفاعل في ميدان الرغبة وقد ترشّح شيء من صمته على ضفافها.
الفضاء السرديّ البوليسيّ المهيمن على تمظهرات الحدث الروائيّ يستلزم حضور الصمت بسلسلة متدرّجة ومتعاقبة داخل منظومة من المعاني الدائرة حوله، مثل الحَذَر، الخشية، الترقّب، الانتظار، التحسّب، الاحتمال، المراقبة، وغيرها، على نحو يقود إلى مزيد من التأويل أو تأويل التأويل من أجل متابعة تطوّرات الحدث الروائيّ ومفاجآته غير المتوقعة، ولا سيّما ما يحدث لشخصيّات الرواية الذكوريّة المربوطة بخيط مشترك تحرّكه شخصيّة (رواء العطّار) كما تتجلّى أحد أهم افتراضات (دكتور علاء) في هذا السبيل، وهو منغمس في إيجاد حلّ معقول ومقنع لما يحدث لهذه الشخصيّات التي تنتهي إلى صمت أبديّ في عمليات قتل وخطف مستمرّة.
صوت شخصيّة الدكتور علاء المتقاطع في معظم صفحات الرواية مع ذاته ومع الشخصيّات الأُخر يناظره صمت داخليّ مرعب يتفوّق دائماً على الصوت الخارجيّ، في ثنائيّة تحوّل شخصيّة الراوي الذاتيّ إلى فضاء صامت من التيه والضياع والتشيؤ، يتحرّك على سطح السرد الروائيّ بصوتٍ عالٍ لكنّه يضيع في أعماق السرد داخل صمت مكتوم ومقهور، ضمن معادلة سرديّة تمنح الفرصة كاملةً لتجلّي هذه الثنائيّة سردياً على نحو يعمّق المقولة الروائيّة؛ ويفتح فعاليّاتها على أوسع قدر من الاحتمال والتكهّن والتأويل الضامن لحريّة شخصيّات الرواية في الحركة وتمثيل الرؤية.