شعريَّة تفاصيل الأغنية اليوميَّة

ثقافة 2022/06/01
...

 مهند الخيكاني
 
تكمن أهمية التفاصيل ورسوخها في بلورة الثيمات وهيكلتها وانفلاتاتها المضيئة والمتشظية كما خرز ملون مثقوب يخترقه خيط الفكرة وإلى جانبه خيط السياق الذي تنتظم تحت مظلته كل العبارات والجمل، لتعلن من خلال ذلك التجمع المنطقي في حدود خياليَّة مشرقة عن مقاصد النص ومجريات الأحداث الصغيرة والدقيقة، تلك التي تتعالق وتتشاكل في جسد واحد هو النص.  ولا يخفى أن هناك العديد من الدراسات التي تناولت «شعريَّة التفاصيل»، والحياة اليوميَّة في مجاميع شعريَّة متنوّعة في أشكالها الوزنيّة والنثريّة، لكن لم يُنظر بعد الى أنموذج الأغنية ذات القوام الممتلئ بالتفاصيل تلك التي تشبه الى حد كبير نصوص النثر والشعر اليوميّة والحياتيّة، بل إنَّها -الأغنية اليوميّة - لو صحَّ التعبير على غرار القصيدة اليوميّة، كانت الأسبق في دخول عالم الحياة عبر الأجزاء، من خلال النوافذ لا الأبواب، وفتحات المفاتيح لا الأبواب، عبر الثقوب والشقوق والتسرّب من خلال مسامات الأشياء المستدعاة إلى النص. ولربما ما تعنيه الأغنية في ذاتها هو عين وجودها وحضورها وتمكّنها من أن تكون سبّاقة في حمولاتها الحياتيّة ومؤرّخة لأيام وساعات ولحظات الأشياء داخل الزمن الكلي للأفراد.  
فالنصّ الغنائي هو نصّ يومياتي حياتي بالضرورة، بل إنَّ صفة اليومي/ الحياتي وفق رؤية شخصيّة، هي صفة عضوية في جسد النص الغنائي على اعتبار أنه خطاب موجّه إلى جميع الناس محاولاً استفزاز وتحفيز حواسهم ومشاعرهم عبر مواقف وأحداث وقصص تمتدّ جذورها إلى باطن الحياة الاجتماعيّة والوجدانيّة منعكسين على بعضهما.. 
وكخلاصة لما تقدم أطرح هنا لأول مرة مصطلح «الأغنية اليومية «: وهي تلك النصوص الغنائية ذات التفاصيل الحياتية الرتيبة والمهملة والاعتيادية التي تقترب في مضمونها من النصوص الشعرية والنثرية الموسومة بالحياتية، وتستمد طاقتها الشعرية منها، وعلى ذلك سنأخذ بعض النماذج لتلك الأغاني ذات المنحى اليومياتي الناضج والصارخ، وبالأخص تلك التي تقترب من الأنموذج الشعري والنثري الغني بالتفاصيل.  والبداية مع أغنية «مالادو»، للفرنسي الشهير والكاتب سيرج لاما، غنّاها عام 1973، ثم ازدادت شهرة الأغنية مع الفنانة داليدا، وترسّخت في العالمية أكثر بصوت لارا فابيان. ومن بداية الأغنية في المقطع الأول منّها يتجلى احتشاد الإنسان المنهوك والمريض بصفة تنحو باتجاه الإخبار والمباشرة، “أنا مريضة”، إذ تبدأ من النهاية وتتماهى كل من البداية والنهاية والعنونة في نقطة ارتكاز واحدة، ثم تبدأ ضفيرة من التفاصيل التي تتكئ على الوصف والتشبيهات لإشباع ثيمة المرض: ( لم أعد أحلم، لم أعد أدّخن، لم يعد لي كذلك حكاية/  أنا وحيدة بدونك، أنا قبيحة بدونك) ثم تبدأ التشبيهات عبر سلسلة من التفاصيل الحياتيّة اليوميّة: (أنا مثل اليتيم في مرقدي، لم تعد لي حتى الرغبة لعيش حياتي/  حتى سريري تحول إلى ساحة محطّة عندما ذهبت/ مثلما تخرج أمّي في المساء لتتركني وحيدة، أعاني خيبة الأمل/ مثل الصخرة العالية، مثل خطيئة، أنا متشبثة بك/ أشرب كل الليالي، لكن كل الويسكي لديَّ نفس المذاق/ وكل السفن تحمل رايتك/ أسكب دمي في جسدك/ أنا مثل الطير الميّت عندما تنام).  
أهم مرتكزات النص التي مثّلت الطاقة الشعرية المنبعثة من توظيف الحياتي هي هذه التفاصيل: اليتيم، السّرير، خروج الأم مساءً، الصخرة والخطيئة، الويسكي، الطير الميت. مرّ من خلالها خيطا، السياق والثيمة الممّثلة بالمرض مع تكرار التشبيه بـ “مثل” وتعضيد الحالة الشعورية للإنسان المنكسر والمنهزم والذي يصرخ ويتساقط النحيب كشظايا نيزك محترقة من شدة الوجع والدمار في ذهن المتلقي. وجاءت الموسيقى والألحان والأداء البسيط القريب لمن يحكي مآسيه ومعاناته للآخرين متماسكةً ومتفقةً في إظهار النص وتفجير المراد من تلك المشاعر المكنونة في باطن وظاهر الكلمات.  
المثال الثاني، أغنية (أنا إيطالي)، للمغنّي الشهير توتو كوتونيو، غنّاها عام 1983، ثم غنتها فرقة  فرنسية الأصل، ولعلّ هذه الأغنية أكثر وضوحًا من سابقتها في الإشارة إلى دور التفاصيل في تشعير الأغنية وطلائها بالجاذبية والسّحر اللذين يلهمان السمع والأبصار والأفئدة حينما يتداخلان ويمتزجان بين الواقعي/ الحياتي الصّلد والمهمل، وبين بِركة السياق ذات الماء العذب وهو يغرِقها ويعرّض أجسادها الغضّة الى التذويب والتنعيم، ويمنحها سلّمةَ ارتقاء على موضعها التقليدي ذي الحركة المدارية المستهلكة في حياة الإنسان، وسنأخذ بعض المقاطع منها لكونها غزيرة وملأى بصنوف التفاصيل: (صباح الخير إيطاليا، بالسباغيتي خاصتك/ وجبنة البارميزان للرئيس/ بمذياع السيارة الذي يكون دائما على الجهة الكبرى/ وطائر الكناري فوق النافذة/  صباح الخير إيطاليا بفنانيك، بالشّعارات الأميركية الكثيرة على ملصقات الإعلان/ صباح الخير إيطاليا التي لا تجزع، وبكريم الحلاقة برائحة النعناع، بالبدلة الزرقاء المقلّمة، والأفلام المعادة كل أحد على شاشة التلفاز).