لغةُ الكاتب وأنساقُ الكتابة

ثقافة 2022/06/02
...

 طالب عبد العزيز
 
كلُّ عمل فنيٍّ كبيرٍ يترك أثراً كبيراً، ويخلد في النفس الى ما شاء الله من الدهور، يتملكنا، فيصبح مادتنا الأثيرة، نستحضره في حديثنا، ويقفز أمامنا على الورقة عند شروعنا بالكتابة، ثم لا نعدم أنْ نجده في أفعالنا الحياتية الأخرى، فهو يتسلل إلى وعينا بمجرد ملامسته. لكنْ، بين حشد الأعمال العظيمة تلك نجد أنَّ كثيرين ألّفوا وكتبوا ورسموا بذات التفاصيل، التي نستحضرها عند أولئك الكبار، لكنَّ أعمالهم ظلت محايدة، عاجزة عن اختراق أرواحنا، ولم تختزنها الذاكرة، لذا انطفأت، وداستها عجلةُ الزمن، ثم قذفت بها ممحاة النسيان بعيداً.مثل قنديل أحمرَ يقفزُ امرؤ القيس وعنترة والمتنبي وسواهم عند كلِّ حديث، عن الاطلال والمروءة والشجاعة، ومثلما نستحضرُ عمرو بن أبي ربيعة وأبا نؤاس وأبا العتاهية والمعرّي في كل حديث عن النساء والخمرة والزُّهد والعزلة، نستحضر سواهم أيضاً بما عرفوا به في الشعر والرواية والرسم والموسيقى والفنون الأخرى. هكذا، وعبر الزمن صار كلُّ واحد منهم أيقونةً، تتقدمه بوصفها الأثر، الذي خلَّفته بيننا، ولعمري، فقد خُلقنا لنكون نحن، لا غيرنا، وفي الخرائط التي رُسِمت لنا، أو أتتنا من حيث نعلم أو لا نعلم، أو أننا تنبهنا لتماهيها مع طبيعتنا ولغتنا، فاجتهدنا في اثرائها قراءةً وبحثاً وممارسةً.
ألزِمُ نفسي أحياناً، بقراءة كتبِ أحد الكتاب أو الشعراء، وأشّبعُها درساً ومعاينةً، فأجده متناثراً في أكثر من مشروع كتابي، غير متوقف عند نقطة ما، تتجاذبه إغراءات القراءة، وتأخذ بياقته أكثر من ريح، فيذهب فيها حيث ذهبت، وأبحث عن بؤرة يتجمع فيها عالمه فلا أعثر عليها، فهو يمتاح بدلوه من كل بئر، ويغرس بأرض غيره أشجار سواه، فلا أرى له نباتا ولا ثمرا، وحين أبحث في تجربته عن شاهدٍ يعزُّ عليَّ ذلك.. ومَردُّ ذلك أنه لم يبلغ بعدُ معنى أنْ تكون شاعراً أو
كاتباً.
ربما كانت البدايات ساحةً للتأثر، فالقلم عِرضةً للجذب والانحياز، واللغة مادةٌ يعوزها الانتماء والدراية، والأنساق لم توجّه الوجهة الصحيحة بعد، وهذا ديدن الجميع، فلم نخلق كباراً، لكنَّ العمل أيَّ عمل، فنيٍّ وسواه، يتموضع في ما ننتمي اليه، ونؤكده، ونريده، ونحبّه وليست اللغة خارج ذلك، حتى قيل هذه لغة فلان، كذلك تكون الأفكار والرؤى، حتى قيل هذه لفلان، وتلك لغيره، فهذا الجاحظ لم يذهب الى ما ذهب إليه الفراهيدي أو الأصمعي وسواهما، وذاك الفراهيدي لم يذهب الى ما ذهب اليه مالك بن دينار أو إبراهيم النظّام، ومثلهم نجد طه حسين مختلفاً عن توفيق الحكيم ومحمود أمين العالم، كذلك كان بدر شاكر السياب مفارقاً لنازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور، مع أنهم عاشوا قريبين من بعضهم، واستعملوا اللغة ذاتها. نقرأ ماركيز، فيجعلنا في مواجهة الدكتاتوريات، والعقداء، وشركات الموز، وخطوط التلغراف، ونقرأ أنا أخماتوفا، فتلفح وجوهنا عواصف الثلج في سيبيريا، وتظللنا أشجار القيقب والحور في موسكو، ومعها نعيش لحظات العزلة، والنفي، وقسوة النظام السياسي، وتأخذنا الإسكندرية في لغة إدوراد الخراط بعيداً عن القاهرة، ولغة نجيب محفوظ، والأمثلة كثيرة، فهذا همنغواي لا يشبه بورخيس، ولا كالفينو يشبه غاليانو.. كلُّ قائم بذاته، له لغته وعوالمه وأنساقه، فتمكنوا منا قرّاءً مغرمين بما كتبوا، حتى صرنا نعرفهم مما دوَّنوا لا من أسمائهم وعناوين كتبهم. ليس العيب في أن تكون لك لغتك وعوالمك وأنساقك، وإن تكررت في أكثر من عمل لك، لكنَّ العيب في أنْ لا يكون لك ذلك، وأنْ تُرى قصائدك وعوالمُك في هذا وذاك، ممن قرأتَ 
وتمثلّت.