إجازة

ثقافة 2022/06/03
...

 د. فلاح الحسن
 
غانم سعيد فرحان
نعم سيدي
مجاز لمدة سبعة أيام
نعم سيدي
أدى التحيةَ العسكريَّة واستدار مغادراً المكان باتجاه الخندق الذي يؤويه وزملائه الجنود على خطوط الجبهة الأماميَّة. لم تكن هناك تحركات عسكريَّة وقصف متبادل بل هناك حالة من الهدوء الذي يسبق سيلَ القذائفِ الذي ينهمر كالمطر على القطعات المتواجدة على خط الصد الأول مع بدايةِ أي هجوم. قصفُ المدفعيَّة الثقيلة المنتظم يسبق أي اندفاع للعدو وعندها أو قبلها بقليل يتمّ إلغاء جدول الإجازات وتدخل القطعات المتواجدة حالة الأنذار.
عليَّ أن أنجز كلَّ شيء وأجمع أغراضي في حقيبتي الصغيرة وأذهب إلى الخطوط الخلفيَّة بأسرع وقت ممكن قبل أن تتغير الأمور وتُلغى إجازتي التي انتظرها على أحرِّ من الجمر. بالأمس استشهد صديقي حسين وقبله صديقي أبو فرات وتبعهم آخرون ولم يبق من مجموعتي إلا أنا وقد اضافوني الى مجموعة أخرى بعد إعادة هيكلة الفصيل كله بسبب كثرة الشهداء. كانت أماسينا متشابهة كمصائبنا لا جديد فيها إلا أسماء الرفاق الجدد بدلا عن الشهداء، وفقدنا الأمل بانتهاء الحرب واعتدنا على وداع الأحبة بعد أن كنا نبكي الشيوخ أياماً أصبحنا نفقد الرفاق ولا نبكيهم إلّا سويعات لأننا ننشغل بجثمان حبيب آخر!
صفيرَ القذائف وهي تحلقُ فوقنا وصوتها وهي تنفجر بيننا وصراخ المصابين أول وهلة وأنينهم بعدها أصبح جزءا من حياتنا اليوميَّة. الموتُ كان الحاضر الغائب فهو معنا في كل لحظة مع كل حركة، لا نراه، لكن نشعر به. يمرُّ أمامك يقطفُ عمرَ صديقَك الأعز ويداعبُ خدَّ الآخر أو رجله ويأخذها معه ويتركه يتلوى ألماً. لا يخلو الصمتُ من صوتِ الموتِ المر وهو يعوي فينا. الموتُ معنا مثلَ حبيبٍ لا يفارقُ حبيبه، نتحسسهُ يُلامِسُنا، ينسابُ بين الأناملِ يطوفُ حولَ الرقاب الطريَّة يتلاعب بخصلات الشعر السوداء كأيامنا حالكة الظلمة. أي موت هذا الذي لا يختار إلا أكثرنا شباباً وعذوبة، قد التقيه قريباً، لا أحد يعلم!
أُلَملِمُ أوراقي وبقايا ألمي أضعها في الحقيبةِ، وأرمي نفسي في أول سيارة متجهة الى خطوط القتال الخلفيَّة. وبعدها أحثُ الخطى الى مرائب السيارات المتوجهة الى بغداد. 
لم يكن المقعد مريحاً لكني غرقتُ في نومٍ عميقٍ بعد أن جلست عليه فقد أخذ مني التعبُ آخر ما تبقى من طاقة. 
بغداد ليستْ تلك المدينة التي أعرفها قبل التحاقي بالحرب، كلُّ شيء فيها حزين وخاصة بعد مرور أكثر من سنتين على بدء نزيف الدم. الجدران مليئة بلوحات الحزن مع أسماء الشهداء وأماكن استشهادهم ومكان إقامة العزاء. لم يقتصر السواد على لون اللافتة وإنما تعدى إلى ملابس الأمهات اللواتي أصبحن جزءاً منه ولا يفارقهن في كل مفردات الحياة اليوميَّة. مفترقات الأزقة ونهايات الشوارع وأركانها خاوية فارغة من شاغليها بعد أن كانت مقراً للعشّاق وهم ينتظرون مرورَ الحبيبةِ لينعموا بنظرةٍ منها ولو بطرفةِ عين! كان اللقاء مع احداهن ترفاً صعب المنال ويتحول الى أرقٍ يسرقُ منهم لذة النوم. كل زقاق له عشاقه ويختار الواحد منهم ركنَ الشارعِ الذي تختاره حبيبته طريقاً لذهابها وايابها في العادة. كنا نعرفُ مَن منهم ينتظرُ مَن وقد نحدد موعد عودتها لنراه واقفاً قلقاً يتلفتُ يمناً وشمالاً ليختلسَ نظرةً منها ترافقها ابتسامة وقد يتجرأ على مغازلتها:
اروح فدوة لهذا الطول... يقولون الشمس غرُبت لكن هذه الأخرى أشرقت!
هذه الشوارع وأركانها وأزقتها الآن مليئة بلافتات العزاء، هذه تنعى كريماً الذي كان يعشقُ (سهام) ابنة الخبازِ وتلك لافتة تنعى علياً الذي قضى جُلَّ وقته يُحاولُ أن يلفتَ انتباه سهيلة وتلك لعبد الله الذي منعه أبوه من الوقوفِ في ركنِ الشارع بعد الخلافِ الذي نشب بينهما على خلفيَّة عشقه لابتسام ابنة المختار!!! 
المختار يعرف كل أخبار المحلة، كل شاردة وواردة وفي كثير من الأحيان يكون عيناً للمنظمة الحزبية أو جزءاً منها. لذلك كان الأب يخشى على ابنه من أن يشي به أبوها الى المنظمةِ الحزبيةِ وحاولَ جاهداً أن يبعدهُ عنها خوفاً عليه.
آخر بيت سكنه أهلي لم يكن بعيداً عن دار المختار، لم نمتلك سكناً دائماً وكنا نستأجر وننتقل من بيتٍ الى آخر بحثاً عن أقلها ثمناً ثم الأكثر غُرفاً بعد أن ازدادَ عددُ أفرادِ العائلة. كل شهرين أو ثلاثة نسكنُ في شارعٍ مختلفٍ ولنا عنوان غير الذي سبقه. كانت أمي تخاف من أي طرقة بابٍ غير مألوفة، وبالخصوص ليلاً خشية أن يعود أحدنا، نحن ابناؤها الثلاثة محمولاً في نعشه، كان الدعاء لا يفارق شفتيها: 
محروسين بالله وكتبه ورسله! 
تخرج الكلماتُ كأنّها نداء استغاثة مصحوبة بتنهيدةٍ تشقُّ عنانَ السماء مع كل غروب شمس، كأنّها ترنيمة يسمعها كل الجيران!!! كانت تنام ولا تنام، دائماً متأهّبة متوثّبة وتحاولُ تفسيرَ الأصوات التي تسمعها في الشارع بناءً على حدسها!
وصلت محلتنا منتصف الليل وتوجهت لدار المختار مباشرة اسأله عن أهلي في أي دار يسكنون الآن، ام في البيت نفسه! 
طرقتُ البابَ بهدوء متوجّساً، خوفَ أن يكونوا نياماً
من الطارق؟
أنا، غانم سعيد فرحان
يُفتح الباب بتثاقلٍ مع صريرٍ خفيفٍ وتخرجُ أرنبةُ أنفِ المختارِ من خلفِ الباب ثم يظهر وجهه كله.
عذراً على إزعاجكم في هذا الوقت المتأخر لكني أتيتُ أسأل عن مكانِ أهلي الجديد.
نعم، يا غانم ويا سعيد ويا فرحان، يبدو أنك لا تملك من معنى اسمك شيئاً. ليس هناك ما تبحث عنه! يؤسفني أن أخبرك يا بني أن أخويك استشهدا قبل شهر والتحقتْ بهما أمك كمداً ولم يستطع أبوك تحمل ما حصل ففارق 
الحياة!