رؤيا الكتابة تقاطعات المعنى والإحالة الثقافيَّة

ثقافة 2022/06/03
...

   د. علي متعب جاسم  
 
ليس من الضروري الحديث عن ثنائية الشاعر/ الناقد، وقد أنُتجت في ذلك تصورات كثيرة منذ إليوت وإلى يومنا، وربما تكون الإشارة بدءا إلى قول فراي "إنَّ الشاعر الذي يتحدث كناقد لا يُنتج نقداً، بل وثائق يجب على النقاد أن يمحصوها" تعزز ملمحاً دالاً على قدرة الشاعر الناقد في استنتاج رؤى نقدية من شعره، وهو أمر لا ينطبق على كثير من الشعراء النقاد في العراق على الأقل، لكني ألمس هذا واضحاً مع حسين القاصد الذي أتمثل مجموعته "ما تيسَّر من دموع الروح" في هذه المقالة.  وقبل أن نؤشر تصوراته ورصوداته الثقافية وكيف تحولت من أنموذجها الشعري إلى رؤية مفاهيميَّة طُرحت بوصفها نقداً، أثير هذا التساؤل الذي سيبقى -ربما- مفتوحاً: إلى أي مدى يمكن للشاعر أن يجترح رؤيا نقديّة بتمثل شعري؟. 
هذا التساؤل راودني منذ زمن بعيد حين لمست بعض الشعراء والروائيين يلامسوه بقصد أو بغيره، لكنه عاد مع القاصد من نافذة الاختلاف وليس التفرّد. ولعل قارئ كتابه "النقد الثقافي- رؤية جديدة" سيجد ما أذهب إليه بوضوح، مع ملاحظاتي على "البنيّة المنهجيّة النقديّة المتضمنة فيه" ولها وقفة مطولة لاحقاً. 
أتحدث هنا عن الآتي: 
- خلق النسق الإيقاعي ويتضمن:
1 - التدوير المقطعي.
 2 - تقاطعات المعنى والايقاع.
 3 - إيقاع الدلالة المتشكل من خلال الإسناد.
-الإحالة إلى تقاطعات المعنى - الصورة اللغويَّة.
حين نأتي إلى النسق الإيقاعي سنلحظ أن القاصد لا يعطي الايقاع قيادة القصيدة فحسب، إنه يسعى لأن يكون الايقاع ظلاً يرافق المعنى ويجترح دلالات ثقافية ويكون ذلك وفقاً لرصدنا على أكثر من مستوى، منها التدوير المقطعي. ففي قصيدة "آي من الوجع العراق" وهي تعتمد ثلاثة مقاطع مدورة وثلاث جمل إيقاعيَّة تأتي موظفة بنسق ينقطع عن السابقة منها واللاحقتين. ما يحيل إليه هذا التدوير قضيتين أساسيتين، فهو يحيل إلى تجربة التدوير عند شعراء سابقين إليه، وهو أمر ليس من الضرورة الوقوف عنده، إنما الإحالة الثقافية هي الأهم، وهي هنا تتمثل في خطاب "التنبيه واللوم" الذي يحيل إلى الخطاب الموازي للخطاب القرآني.  لذا يوفر التدوير ظلاً جديداً للمعنى. وهو ما يسميه بـ "الاتكاء الثقافي" ومداره قدرة الإيقاع على تمرير خادع للمعنى الشعري على حساب معنى سابق. وهذا ما نلحظه أيضاً في أمرين متعاكسين. الأول حين يكون قول الشاعر سابقاً لغيره كما في "كم كان لله بيت قرب دمعتنا" وهي اشارة سابقة إلى قصيدة الشاعر عارف الساعدي "كان لله بيت قريب على قريتي" من ضمن مجموعة "جرة أسئلة المكتوبة ما بين 2009 - 2012" إلا أن عارفاً يبني فكرة متكاملة، ويصوغ عالماً كلياً لها لتبقى صورة "القاصد" محمولة على ايقاعها وفكرتها الجزئية، ويتكرر الأمر نفسه في قوله "من كل ريح كان ينبت سنبل" و "الرمح ينزف والحسين سنابل". 
فالعلاقة التي تكونها الصورة بين طرفي "الحسين - السنابل" بما للطرف الثاني من دلالة الإتساع في الحياة والقدرة على التوالد وغير ذلك، هي الفكرة التي يبني عليها أجود مجبل قصيدته "سنابل الحسين" المنشورة ضمن مجموعته الصادرة عام 2017 بعنوان "يا أبي أيها الماء". إلا أن أجود يكسر إطارها الإيقاعي تماماً لينتج منها فكرة كلية تتفرع من جزئيات الحياة كلها. 
أما الأمر الثاني فنلحظه في: "تعالي أسميك الكلام لنبتدي" و "وأحدكم بسعر رصاصة" فالإحالة هنا لا تكمن أهميتها في إيضاح الممكن "في البدء كانت الكلمة" أو الكلمة التي كانت متداولة في سياق خطابات السلطة قبل 2003، وإنما الأهمية تكمن في وضعها ضمن نسق إيقاعي قادر على تمريرها حاملة معنى مختلفاً. وحين نحيل إلى تصوراته عن "الصورة الثقافية" بقنواتها "اللغوية والتوضيحية والنفسية والفلسفية" أو حتى في توصيفه "كسر النسق الثقافي" فسنجد في نصوص المجموعة الكثير من الاتكاءات الثقافية. وسنمثل لبعضها. 
"أنا صلة الموصول حيث" التي أنا "محلي من الإعراب أُبنى على الأرق".
"حزن" تجبلت "البحار وأبحرت منه الجبال ومات حق باطل". 
"لكي تتخلصوا من لعنة الجزم التي حرمتكم من أي رفع".
ففي هذه الأمثلة يتكئ القاصد على البعد "اللغوي" في إنتاج الصورة، وليس على التشكيل البياني أو البلاغي بشكل عام، وإذا ما رجعنا إلى بدء القول، سيظهر لنا أن اشتغالاته الشعرية سبقت انتباهاته النقدية، وهو ما نريد الوصول إليه، لكنه بحاجة إلى تمحيص أعمق وأوسع.