منوال المعرفة بين التخصص والموسوعيَّة

ثقافة 2022/06/05
...

 خالد خليل هويدي
 
تعدُّ ثنائيَّة التخصص والموسوعيَّة واحدة من الإشكالات التي فرضت وتفرض نفسها على مجمل المعرفة الإنسانيَّة، وهي إشكاليَّة ليست مقتصرة على معرفتنا المعاصرة، بل نجد لها حضورًا واسعًا في التراث المعرفي الإنساني.
ويمكن القول إنَّ ثمة رؤيتين تقاربان هذه الإشكالية، تناقض إحداهما الأخرى. فالرؤية التخصصية تميل إلى عدّ الموسوعية لونًا معرفيًا قديما تجاوزه الزمن، وكان يمكن تقبّله في سياق حياة بسيطة خالية من التعقيد والانفجارات المعرفيّة، التي تعيشه البشريّة اليوم.
في حين ترى الأخرى أنَّ التخصصيَّة هي تعبيرٌ عن فقر وتحجّر، ورؤية للأشياء من زاوية واحدة، تحرم الفرد الباحث من رؤية الظاهرة بأكثر من منظار. ولكلٍّ من الرؤيتين حججها وتصوراتها التي تدافع بها عن نفسها.
تؤمن التخصصيَّة بشرعيَّة وجودها من تحرّر العلوم، وانشطار العلم الواحد إلى علوم أكثر دقة وتنظيما، فلم تعد الفلسفة كما سبق هي الحاوية لكل ألوان المعرفة، فأصبحت هنالك علوم متعددة، منها الرياضيات والكيمياء والفيزياء إلى جوار الفلسفة، ولكلّ علم مما تقدّم جهازه المفاهيمي والاصطلاحي وعلماؤه وجمعياتهم التخصصيَّة.
وقد انعكس هذا التصوّر على العلوم الإنسانيَّة أيضًا، لا سيما بعد ما حدث ويحدث من ثورة صناعيَّة ورقميَّة، أصبحت مغرية لاعتناق فكرة التخصص.
ويمكن تقديم تفسير اقتصادي يرفعه الداعون الى التخصصيَّة يتمثل بتعدّد المشتغلين في حقل معرفي معين، وهنا يجب البحث عن شخص مختلف، يكون أكثر التصاقًا ومعرفة بتخصصه، وهو ما يؤدي بالنهاية إلى تحقيق هامش من الربح أعلى، يفرضه التخصص الذي يجعل العالِم متفرّدًا في ذلك.
«وبهذا تغدو لعبة التخصصيَّة، متعلقة بالصعود الهرمي الذي يعطي الامتياز لمن يصعد أسرع من غيره (ثانوية.. كلية.. جامعة.. دبلوم عالي.. ماجستير.. دكتوراه.. الخ)، وعلى هذا فإنّ أي عملية توسع معرفي أفقي - من ناحية عملية - يعني بشكل أو آخر؛ السحب من رصيد الصعود العامودي الذي يعطي الامتياز والفرادة لمن يصعد أكثر فأكثر”. 
في حين يدافع أنصار الموسوعيَّة عن رؤيتهم بأن العالم يسير نحو تداخل التخصصات وعدم وجود استقلالية في العلم، ومع بروز فكرة تداخل الاختصاصات تلاشت الحدود بين العلوم، لصالح فكرة التخصصات العابرة لحدودها. وهو ما يوفّر للباحث منظارًا أوسع، وفرصة أكبر لإدراك الأشياء.
فعلى سبيل التمثيل يحتاج اللساني إلى عدد من العلوم التي تساعده في ضبط الظاهرة اللغوية، مثل علم النفس والرياضيات والمنطق وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا وغيرها من العلوم، وبالدرجة نفسها تحتاج هذه العلوم اللغة لبحث وحسم الكثير من قضاياها.
كذلك يحتاج المتخصص بالعلوم الدينيّة إلى الاطلاع على المعرفة اللسانيّة، والتاريخيّة والثقافيّة وما توفره لها الدراسات الهرمونطيقيّة.
إنَّ فكرة الموسوعيَّة -بحسب ما أعتقد- يجب ألا تُلغي التخصص، لا سيما بعد الانفجار الرقمي والمعرفي الكبير، الذي عقّد الحياة بنفس الدرجة التي يسّرها.
وعندما يكون العالِم متخصصا بعلم معين، يجب أن تكون المعارف الأخرى خادمة لتخصصه الأصلي، ومفيدة له. لأن العالَم الآن يسير نحو تخصص التخصص، وعليه يمكن استثمار المعارف الأخرى لخدمة التخصص الأصلي لا لإزاحته، ذلك أن توزّع الباحث بين معارف مختلفة يسلب عنه صفة البحثية، ويحوّله من حيث يشعر أو لا يشعر إلى واعظ يتحدّث في كل شيء وعن أي شيء، فتكون الموسوعية حينئذٍ فقرًا لا غنىً، وضياعًا للهوية العلمية، وهي الهوية التخصصية التي يجب أن تكون العلامة الفارقة للباحث الحقيقي.