أبعدوا الخرافيين عن النقد الحديث

ثقافة 2022/06/06
...

 د. عبد العظيم السلطاني
 
عناصرها تصورات فلسفيَّة وآليَّات وإجراءات وقيم ثقافيَّة، منسجمة مع بعضها، وليستْ ركاماً من عناصر مُجمَّعة تجميعاً عشوائيَّاً. والمصطلح الآخر كونه (حديثاً)، وهذا يستلزم أن تكون تلك الشبكة من التصورات والآليَّات والقيم؛ ابنة هذه الحقبة الزمنيَّة الموصوفة بكونها حديثة، وليست من مخلّفات عصور غادرها العلم.
 ولأنَّ النقد الحديث ذات فاعلة في واقع، فلنا أن نتصور بأنّه ليس بمنجاة من فكرة الصراع، وهو قد يَبغُضُ ويَرفُضُ، شأنه شأن الناس في الواقع. وهو في بُغضه ورفضه ليس مزاجيَّاً، ومن أين تأتيه المزاجيَّة وهو منظومة ما فتئت تشذب وتهذب ذاتها لترتقي في سلّم المعرفة والموضوعيَّة؟!. وهو حين يبغُض ويرفُض لا لأنّه لا يُؤمن بمبدأ الاختلاف، فالاختلاف لديه نعمة وتحفيز. وهو إنّما يبغُض ويرفُض أولئك الذين يسيئون إلى صورته ويسيرون ضد منطقه، ومع هذا يدّعون أنّهم من أهله ويزعمون أنّهم يعلّمون مبادئه ويجسّدونها من خلال
سلوكهم. 
 دعني أقترب أكثر لأتحدّث عن أولئك الذين يبغُضهم ويرفضُهم النقد الحديث، مُجسَّدين بأشخاص متخصصين بالنقد الحديث في المؤسسات الأكاديميَّة، وهم، أيضا، يمارسون نقد النصوص بهذا القدر أو ذاك. ويؤهلني للحديث عن هؤلاء ثلاثة عقود قضيتها في التدريس الجامعي، زاملتُ فيها بعض مَنْ يكتبون النقد ويعلّمون النقد الحديث، وهو منهم براء. وكنت أكاد أستشعر مقدار أوجاعه وهم يسيئون إليه رمزياً ويسيئون إليه بأن يُدخلوا فيه ما ليس منه، وفي الحالين هم يشوّهون صورته. 
ليس من أهل النقد الحديث مَنْ يبحث عن سحّار كي يُبطل له سحر فلانة التي آذته بسحرها!. وليس من أهله مَنْ يحرص على اقتناء (حرْزٍ) أو (خرزة حظ)، كي يدفع عن نفسه بلاء محتملاً، أو يستجلب لنفسه رزقاً!. وليس من أهله مَنْ يحرص على قراءة الفنجان ليتأكّد من أنّه ليس محسوداً.. وهكذا، قد تطول قائمة الممارسات من هذا النوع، التي يمارسون فيها ما يمارسه المشعوذون والخرافيون
الجهلة.
للنقد الحديث مهام كبيرة في شتى ضروب المعرفة الإنسانيَّة ومنها النقد المعنيّ بدرس الأدب. ولا يمكنه أن ينهض بهذه المهام الكبيرة إلّا حين يكون جهازاً مفاهيميّاً متماسكاً، قائماً على نظريّات معرفيّة ومناهج للتفكير، تحترم العقل وتحتكم إلى آلياته المنضبطة. وأيّ إضافات عشوائيّة تضاف إلى هذا النظام المفاهيمي وهي لا تنسجم ومنطق العلم؛ إنّما هي تلفيق يؤدي إلى التخريب. ومَنْ يؤمن بالخرافة ويُلهمه عمل المشعوذين يستند إلى عقل لم يبنِ بناءً علميّاً يربط النتيجة بالسبب، وتسرّبت إليه الخرافة وتمكّنت منه، فصار ذا عقل خرافي. وكيف لنا أن نأمل خيراً في نقد يُنجزه عقل خرافي؟! وكيف يمكن أن يكون ناقداً ممتازاً وخرافياً ممتازاً؟! هذه مفارقة لا تستقيم لصاحب نظر.
لماذا يستمر ذو العقل الخرافي خرافياً ولا ينتفع من معطيات النقد الحديث إن كان يعلّمه للطلبة؟. لم يصادفني خرافي ضربت الخرافة جذورها في عقله ثمّ تغيّر تغيّراً حقيقياً بسبب تخصصه في النقد الحديث. ويبقى جلّ ما يعرفه من معلومات عن الحداثة والنقد الحديث ليس سوى محفوظات، يردّدها على مسامع الناس، ويصعب عليه كثيراً أن يفتح نوافذ عقله وأن يُجدّد بنية ذلك العقل تجديداً علمياً حقيقياً. ولي أن أسأل مرّة أخرى عن سرِّ هذا الاستحكام الذي فُرض على عقله حتى ظلّ خرافياً ولم يتمكن من إصلاحه من خلال
تخصصه؟!.
أكبر الظن أنّ السبب يعود إلى مرحلة عمريَّة مبكّرة، تأسّس العقل فيها تأسيساً مشوّهاً، وبُني ذاك الشيء الذي يسميه الدكتور علي الوردي (الطوق الفكري). هذا الموجِّه العجيب، وصاحب الامتياز في منح العقل هويته وطريقته في التفكير. فمَنْ شبّ وكان طوقه الفكري مغلقاً ظلّ يعاني من الغلق. ومثله مَنْ شب وطوقه الفكري طوق خرافي، لن يكون يسيراً على عقله التخلّص من ظلال الخرافة
 وضلالها. 
ثمّة خطر على النقد الحديث من هؤلاء، فهم من خلال ممارساتهم لثمار الخرافة في سلوكهم الحياتي إنّما يسيئون إلى رمزيَّة النقد الحديث، بوصفه علامة معرفيَّة تنويريَّة، وصورته أمام الناس مرتبطة بهؤلاء، أليسوا هم أمام الناس نقّاداً ومعلمين للنقد؟!. وهم يسيئون للنقد الحديث حين ينتجون نقداً من عقول لوّثتها الخرافة وطوّحت بها الشعوذة، ولا شك أنّها ستُقحِم في الممارسة النقديّة ما ليس منها، ولا يناسب منطلقات النقد الحديث وقيمه الثقافيَّة، ويقدمون منجزهم للطلبة وللناس على أنّه منجز النقد الحديث!. لذا يحق للنقد الحديث أن يبغُضهم ويرفضهم، وعلى المعنيين أن يبعدوا هؤلاء عنه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فهم ليسوا من أهله وهو ليس لهم، وكيف يكون هؤلاء من أهله وهو خلاصة معارف العصر وأبهى صور التنوير
 فيه؟!.